الكلام أو الموت؟ – د. محمد وهبي

– القراءة الثالثة –
الكلام أو الموت؟
د. محمد وهبي
الموت:
تنطلق الحركة من الذات المنكسرة، انطلاقاً يفتح التأويل على الزمن موغلاً في القدم كان أو متحرِّكاً نحو الآتي من التواريخ. لعلَّها الجروح الغائرة أو الخسارات الكبرى، أو لعلَّه الحزن الشفيف الموشى بروح الفقد والحداد، أو لعلَّها الرهانات العميقة الغور، إذ تضطرب في رصد الاحتمالات وفي سبر الأوالات وكنهها، أو لعلَّه لوم الذات المفعم بارتداد العنف المقنع، إلى الدواخل. ولكن سرعان ما تندغم الحركة هذه بالمدينة، مدينة مطعونة باجتياحٍ مأساويٍّ خفيٍّ يحفر في أديم الأرض تتحوَّل يباباً وتجتمع الأقانيم من حيث لا يرى، ذات مخلعة ومدينة تتهاوى في عراء الزمن وأرض أصابها الجفاف وافترشها غياب النسغ والمطر. ولكن لوحة الخداع البصري هذه لا تكمل دورة حزنها العميم إلا وهي تبث عصارة فكرها هناك، حيث الصوت والصدى، دفء الإيقاع وترنيمة الوجود. لغة الكون هذه يصيبها نشاز مريع لا شفاء منه، نشاز يحيل الأسماع ألماً واضطراباً وينشر العدوان الرجيم:
لقد نشز اللحن.
ولكن مناعة خفية تحوط الجسد وتحميه من غدر الجراثيم ومن الفيروسات وعنادها، تستنجد بجموح العلوم والطبابة وتستشرف القادم من لعنات الجسد بلقاحاتها وبالعزيز من أمصالها، تغالب المرض والموت وارتعاش الوعي تهب وتتوثب لتخفت وتتلاشى ذرة بعد ذرة:
لقد فسد اللقاح. شروخ هنا وأجساد معطوبة هناك، قوى منهكة وزوايا متناثرة، تشقُّقات في الجلد، وجروح في التجاعيد الناتئة وفي غوايات الترهُّل الوافد على خفر، لقد تعودت هذا وعاركت ذاك وأنت فعل الزمكان روحه ونسجه وديمومته، فماذا أنت فاعل إذا كسر الظهر وهدم الهيكل يا ترى؟
لقد كسر الظهر.
الكلام:
الأنا الغائب الحاضر في خبايا النص ومراياه، تتقدَّم بثبات تكسر صمت الغياب وسر التأويل. الكلام العاري، والكلمات الغاربة المحطمة المتناثرة، سألملمها حيناً بعد حين، وإذا كانت القشرة صراخ الذات المنكسرة وشكل تعبيرها الخارجي قد سددت صفعتها إلى وجهي واجهة اتصالي بالعالم وبالآخر وأساس تواصلي معه وحواري إياه، مريدة قسمي وفصمي، لتعمم أزمة كيانها ولتأنس بؤسها وانطواءها، ولتقنص غيابي، تمسك بومضاتي وتمزق مفاهيمي الحية. وتسمم ينابيع احتمالاتي فإنني سأعلن خروجي أعاين الشقوق والشتات وأجمع بقايا الغربة الهاربة وتشظي الأحلام الخفيَّة.
المفردات والغناء والحيرة:
إنها الأقانيم أيضاً أقانيم اللغة -الكيان والموسيقى- الفضاء الكوني بكليته والحيرة. عالم الانفعال والبواطن وكهوف الوعي واللاوعي سواء بسواء.
أراها تفلت مني وترحل عني، إنه عنفٌ غامضٌ يستجمع ذاته ويشدُّ كل قواه ليتركني إلى الخواء العظيم وليرمي بي في عمق الفجيعة السوداء، إنه المتاه- اللامكان القادم لحظة الأصيل، إنه الغروب- الغياب ولو إلى حين.
تفرُّ اللغة مني بعد أن استعادت صوتها وبثت موسيقاها. تعود إذ يحل بأناملي خدر عميق فتهرب الطيور مشردة في الفضاء الكوني وتأبى الصقور المجنَّحة المكث والاصطبار طريدة للزمن البشري، وتخرس الكناري إذ حلَّ بأصواتها عناد الرفض وإعلان التصدُّع في عالم الإلفة وأصحابها.
ولكنني من أنا؟ ومن أناي هذه لتهزم وتستسلم معلنة العجز والتوبه؟!
رائد مغامرة أنا، أصيد الومض وأغوي الغياب، إنه الكون المشتَّت حولي، المموَّه بالأسى والكآبة والمخلع بالحزن المقيم، لن أترك باباً، نافذة، كوة، حائطاً ولا رواقاً في مأمن من قوتي وجبروتي، سأدقُّها جميعاً وسأصهرها وسأبثها نجواي وأربكها بوساوسي ومر أحاديثي… فجأة يختفي وشم الزمان من على الأمكنة ويخسر الكلام رونقه وحلو مذاقه، ولكنني لن أغدر ولن أهزم ولن أعجز.
ها هي أناي مجدَّداً، صنو الطبيعة الحي، ربيبها الخلاق وعاشقها الأكيد. ها أنا أتساقط ورقةً ورقةً، وأرتطم بخريف الشجر الذابل، ها أنا أحترق في مجامر نهايات الشتاء ورقةً ورقةً، وها هو وابل الرذاد التشريني يقصفني ورقةً ورقةً، ها أنا أتطاير في الفضاء القريب فتفتك بي صخور المغاور وتذرني مع الروح، ولكنني سأعود إلى الماء، إلى النهر المقدَّس الذي لا يزول وإلى التراب، إلى حيث تغور بي الأرض وتحضنني في كل حين.
هذه هي أناي، هي الطبيعة الماثلة في كل لونٍ وزيٍّ، ها هي الطبيعة المفجوعة بالعاصفة، وهذا أنا المتألم قبل هابيل.
وها هو وشم الزمن يتلوى، يصعد ويهبط، يتأبَّط الضوء ويغازل الأمكنة، فيتباطأ هنا ويسرع هناك، ويلح عليك أن تحرك، إذ إن الحركة أساس الكون والوجود والغياب…
ولكنني من أنا ومن أناي لأهزم وأستسلم وأعلن عجزي وتوبتي؟؟
الانتصار
رماد جليدي شريد هائم يعمُّ الفضاء ويلفُّ الأمكنة، إنه الصقيع الكوني بأقصى كتامته وصمته، ذات منكسرة تعلوها قشرة مخلخلة مقطعة مهتكة، تنوء بالعتمة وتحلم بالأحزان وليل الخسارات وموت المفردات. ولكن الأنا، ويا للغرابة، تعلو القشرة هذه وتقبع في وسط الرماد- الصقيع. وإذ تصيخ السمع وتجمع الحواس في موكب الصوت العظم، ترجع الأصداء احتداماً، لا أنين فيه ولا نشيج، ترجع الأصداء وتتردَّد احتداماً وطيداً عصيَّاً على التفكيك والزوال.
إنه اللاعج الضرام حيث الحرارة والدفء والولادة والحياة.
إنه الاحتدام الضرام يعجُّ بالأماني ومفرداتها، ويزخر بالأمل ينفتح على معابر الزمن الوافد على أشرعه من نسائم الأمل العظيم، إنها الأصداء تعود كلاماً عصيَّاً، عنيداً مريداً يأبى الكسر والتفتُّت والأفول. إلى المرقى إذن وإلى الأماني حيث تحيا اللغة ويتقدَّم الكلام وتعمُّ روح الزمان وتعبق الأمكنة بوهج دوبامين رهيف يحفِّز العقول والأفئدة.