سعيد تقي الدين في الحزب القومي – أ. د. محمود شريح

سعيد تقي الدين في الحزب القومي
أ. د. محمود شريح
حين بلغَ من العمر الواحدة والخمسين وإذ كان يتمهَّل ويلقي خلفه نظرة تستعرض الطريق التي مشى، وجد سعيد تقي الدين نفسَه مترسّخة في طفولتها وقرويَّتها. عاد من مهجره في الفيليبين إلى بيروت في 1948 بعد غياب ثلاث وعشرين سنة فوجد مسقطه بعقلين تقريباً كما تركه، وسمع بالحزب القوميﱢ. وفي مستهلﱢ 1949 رشَّحَ نفسه لرئاسة جمعية متخرﱢجي الجامعة الأميركية، وقيل له يومئذ: إن أنطون سعادة أصدر أمراً بتأييده عن غير معرفة. وتوجَّه بعد الانتخاب في زيارة تقليدية، يشكر رئيس الحزب الذي أيَّده. وردَّ له “سعادة” الزيارة في سهرة طويلة استمع بها، ولم يستمع بها إليه، ولقد أخبره بعد ذلك أنَّه كان من عادته أن يُصغي ويتلقّف الكلمات قبل أن يدخل في نقاش.
وأُعْدِمَ سعادة سنة 1949، وتمكّن أن يلمحه خلال دقائق في قاعة المحكمة العسكرية، في فترة الاستراحة.
وفي اليوم الثاني كتبَ تقي الدين مقالاً في عشرين سطراً نشرته مجلَّة “كل شيء” مُهمِلةً -أو أنَّ الرقابة حذفت- ثلاثة أسطرٍ منه. كان عنوان المقال “الرصاصة الثالثة عشرة”.
وفي صيف 1949 ألَّف مسرحية ذات فصل واحد، اسمها “المليون الضائع”. وراح يقرأ هذه الرواية على بعض أصدقائه الأدباء، ويقرأها على نفسه. وكان يحسُّ أنَّ فيها نقصاً تلمَّسَه فما التقطَه؛ فهي تعرض مشكلةً ولا تحلُّها. وبقيت هذه الرواية بين يديه نحواً من سنتين لا يجد لها الخاتمة الفنّية الصالحة، ولا يدري إن كانت هي في حقيقة الأمر فصلاً أو لا من مسرحية ذات ثلاثة فصول… إلى أن جاءته يوماً رسالة من سجين قال فيها “إنَّ أكبر همّي في الحياة أن أقنع أمي أنّي لم أعد طفلاً”. وزاد السجين معلّقاً: “ليس من الصعب على المرء أن يقنع أمَّه أنه لم يعد طفلاً، بل إن الصعوبة العظمى هي في أن يقنع أمَّته أنَّه صار رجلاً”.
وتوهَّم حين قرأ هذه الرسالة أنَّه قد وجد خاتمة مسرحية “المليون الضائع”، وأنَّه كذلك همَّ بأن يجد حلَّاً يصلح خاتمةً لمشكلة حياته؛ وكأنَّ حياته استحالت من جهود فرديّة مبعثرة إلى نظامية نشاط في مؤسّسة.
ولقد جرى ذلك بعد أن جاءه الأستاذ عبد الله قبرصي، مصطحباً كتب الحزب وهو يقول: “لقد درسْنا كتاباتك كلَّها، ولاحظنا سلوكك؛ فاكتشفنا أنك منَّا، وأنَّه لا ينقصك إلا أن تحلفَ اليمين وتطَّلع على العقيدة”. وشوَّقه إلى قراءة الكتب التي يحملها، فقال له تقي الدّين: “ما لك وللمطبوعات؟ تعال أفهمني ما هي مبادئكم”، فلما شرحها صاحَ: “أهذا كلُّ ما في الأمر؟ لماذا لم تأتوا إليَّ فور عودتي إلى لبنان؟ لا أرى في هذه المبادئ شيئاً جديداً، ولا شيئاً مغلوطاً، غير أنني قبل أن أنتظم أريد أن أتثبَّت من أمور ثلاثة: أوَّلها أنَّ الحزب لا يحاول هدم لبنان؛ فإن الذي قال: “إذا قيل: لبنان قل: موطني إلهي، وصلﱢ له واسجد” هو عمّي أخو أبي، وقد أفصح عن الكثير مما في نفسي نحو لبنان. وأمَّا الأمر الثاني فهو ألَّا يكون العنف من بعض أساليبكم. وثالثها: ألَّا أؤمر بكتابة شيء أو الكفﱢ عن كتابة شيء”. فأجاب القبرصي: “فأمَّا لبنان فهو بعض دمنا، وهو بعض بلادنا، وأمَّا العنف فهو تهمة من التّهم التي تُصوَّب إلينا، وأمَّا الكتابة فلكَ أن تكتب ما تشاء أو أن تهمل كتابة ما تشاء. غير أنني أتنبَّأ لك بثروة أدبية تجنيها من تفاعل العقيدة في نفسك”.
خيَّروه، بعد أن دخل الحزب السوريَّ القوميَّ الاجتماعيَّ، بين أن يبقى عضواً سريَّاً أو أن يعلنَ انضمامه، وتواعدوا على أن يلتقوا بعد أسبوع ليعطيهم الجواب. وخلال هذا الأسبوع جرت حادثتان قرَّرتا أن يذيع أمر دخوله: كان يتناول الغداء مع الأستاذ عبدالله قبرصي في مقهى “أبو سليم” على الروشة، إذ مرَّ بهما الأمير فريد شهاب مدير الأمن العام وسلَّم. وبعد أن مشى خطوات دار نحوهما وصوَّب نحوه نظارتيه، ومن خلفيهما عينان تبرقان بالشكﱢ والذكاء، وصاح مبتسماً، وسبابته حرْبة تكاد تمرق من كفّه: “أو … و… عى”؛ فشعر إذ ذاك بشيء من الخداع اكتشفه لأوَّل مرَّة في نفسه، إذ أخفى – هكذا اعتقدَ – ما كان يجب أن يجاهر به.
وخلال ذلك الأسبوع أحسَّ كأنَّه في بيته وبين عائلته وجمهور أصدقائه؛ وكان لقاء في بيت الأمين أديب قدُّورة في الساعة الرابعة بعد الظهر. وقبل الموعد حضر مأدبة غداء في أوتيل البريستول تكريماً للشاعر جورج صيدح، وكان بين الحاضرين الأستاذ جميل مكاوي. ومعرفته به إذ ذاك سطحية وحديثة، غير أنَّ صديقه طارق إليافي كان قد اجتمع به مرات كثيرة في باريس وفي سويسرا، وكان طارق شديد الإعجاب بجميل مكاوي، مشيداً بجرأته ووطنيته وبالمواقف المثلى التي وقفها في الميادين القومية، وبأعمال دبلوماسية باهرة من أجل عرب المغرب. ودارت الأحاديث حول المائدة في مختلف المواضيع… وجاء ذكر الحزب القوميﱢ الاجتماعيﱢ، فكالوا له الوزنات المعهودة من شتائم وسخرية واتّهامات، ولقد تضايقت جدّاً في تلك المأدبة.
أعلنَ تقي الدين أنَّ مذهبه فتى يبقى دائماً في ريعان الشباب وإنه ربيع الحياة الدائم؛ لأنه حركة حياة، حركة توحي بأكثر ممَّا هي تنصُّ. إنَّ ذرَّاتها تستبدل ليتجدَّد جسدها، ويفعل عقلها، ومذهبه هو الحركة السورية القومية الاجتماعية التي تُعلي شأن الفرد حين تجنّده نفراً في جيش، وتسير به نحو الحلم الكبير لتحقيق الإنسانية الشاملة، حين تُعدُّ إحدى وحدات هذه الإنسانية – أمّتنا – فتجعل منها مجتمع حرية وقوة وواجب ونظام.
– هذا المذهب – يجيب السؤال الكبير، الذي تمتمَه تقي الدين حين استيقظ وعيُه “من نحن؟ لا من أنا؟ وماذا يجب أن نكون؟ ويخطُّ الطريق للوصول إلى ما يبتعد عنَّا كلَّما سرنا إليه؛ لأنَّنا كلَّما علَونا امتدَّ أفقنا وابتعد. ذلك القوس تحت الطربوش الأحمر، هو أبداً في اتّساع وابتعاد”. وهذا المخطط رآه تقي الدين لا يرسم لك الطريق فحسب.. إنَّه لا يعطيك الخارطة، بل هو يقول لك: إن الخارطة والطريق وعزمك على السير والسير عليها، هي كلُّها عملية موحَّدة لا تتجزّأ. فما أنت بصاحب مذهب إن لم تسر، وتختطَّ، وتحمل خارطة وتسِر على الدرب، الدرب الوعرة التي لا يقصّرها إلا سرعة سيرك.
وفي إشارة واضحة إلى “سعادة” أعلن أنّ الذي وُلِدَ في أول مارس، وارتفع رأسه إلى أعلى من منارة رأس بيروت، وعرضت كتفاه؛ فهما أقوى من الروشة وأضخم، هذا الرجل يمدُّ فيئه في هذه البلاد يوماً بعد يوم، وأنَّ الألوف من الرجال والنساء هم أشدُّ احتراماً لأنفسهم وثقة بها وبمستقبل الأمة؛ لأنهم يعيشون في ظلﱢ عقيدته.
في أثر النفيس تبلَّغوا وبَلِّغوا في (1955) سجّل موقفه الثابت من سعاده:
لقد كنتُ مثلك يا مواطني، أجهل ما هي القومية الاجتماعية. فلمَّا باحثتُ القليلين من أبنائها اكتشفت أنها هي إيماني ومبادئي. وستكتشف أنت أيُّها المواطن، أنَّ هذه العقيدة هي إيمانك ومبادؤك. غير أنَّ إرادتك اليوم مشلولة، وكذلك جهودك مشتَّتة. الإيمان يشدُّها وينظمها وينضدها. في كفّك الحبَّات، وفي وسعك أن تجعل من هذه الحبَّات نفسها قلادة – حين تنضمُّ إلى النادي. وإن أنت لم تفعل، فستبقى مساعيك مشوَّشة، وعلى الأكثر ضائعة، ولن تقوى على إقناع نفسك بأنك أدَّيت واجبك نحو مجتمعك، بل تظلُّ أعمالك المشكورة دفعات على الحساب صغيرة، وتبقى أنت غير مسدﱢدٍ الحساب الكبير.
لقد مرَّت بي أيام – بعضها سنوات – كنت أعجز فيها عن شراء ثوبٍ لجسدي، أو كرسيﱟ لِبيتي، ولكنَّه لم يمرَّ بي يومٌ عجزتُ فيه عن شراء صحيفة أو مجلَّةٍ أو كتاب. منذ 32 سنة أقرأ الكلمة المطبوعة في أمَّهات الصحف والمجلَّات وفي كتاب، أو كتابين كل شهر. ولقد خلصتُ إلى الاعتقاد أنَّ أشدَّ أنواع الغباوات هي غباوة الثقافة. فإن كنت يا مواطني، تريد أن تتفهم عقيدتنا عن طريق عينيك وأذنيك وعقلك بما اختزن به من منطق، ومعلومات، وقوة ملاحظة مرهفة، منعتقة من الخضوع لإقطاعية التفكير، فأنت وأنا رفيقان منذ هذه اللحظة. وأما إن آثرت أن تأتي بالشواهد من بهروز بهرام المولود في بومباي، أو المؤرخ قرقحفوش المستكي المتوفَّى في القرن التاسع، فيؤسفني أن نفترق الآن وهنا؛ فإنَّنا نحن رفقاء العقيدة، نحيا هذا اليوم، ونستعد للحياة في الغد، ولا نفهم من الماضي إلا ما نستطيع أن نشده قوة إلى حاضرنا ومستقبلنا.
تعال إذن، واذكرْ أننا في سنة 1952، وأنك تريد أن تتجند لخدمة أمَّة؛ لذلك تعوزك الشجاعة، وأولى خطواتك الجريئة هي أن تحاول أن تفهمنا وتفهم تعاليمنا بتجرُّدٍ تامٍّ.
وإنَّنا لَنُصارح الذين يهُمُّون بهذه القفزة إلينا، أننا لا نفتح الباب لزبائن سينما، يدخلون القاعة ليجلسوا فيها على الكراسي متفرجين. نحن جبهة صراع وتضحية، وأيام الجهاد أمامنا. لن نأمل من غدنا أن يكون أشدَّ رفقاً بنا من أمسنا. كلَّما اعترضت سطورَنا نقطةٌ حمراء، نعلم أن عبارة انتهت، وعبارة بدأت.
كان سعيد تقي الدين انقلابيّاً، نظريةً وممارسة، في شتَّى مراحل حياته. انقلبَ على الموروث فجدَّده. انقلبَ على النظام فعانده. انقلبَ في اللغة فطوَّع مفرداتها. حياته القصيرة حفلت بتلبية النداء القوميﱢ.