المجلةشخصية العدد

سعيد تقي الدين المفكر والأديب القوميّ الملهم – د. كلود عطية

سعيد تقي الدين المفكر والأديب القوميّ الملهم

د. كلود عطية

من ذاكرة الأدب ولغة الحياة كلمات تشبه الأرواح العالقة بين الأحرف الضالة عن الجهل والتقوقع والتعصب تبحث عن الحق والحقيقة ومعنى الوجود والهوية والانتماء إلى أرض لا تشبه تلك التي تقاتل عليها أبناء آدم وحواء فخسروها وخسروا من بعدها السماء. هي ثقافة الكلمة العابرة لكل الصغائر تراها تحلّق في الفكر والعقل والمنطق العلمي والأخلاقي والأدبي منذ عشرات السنين. هي الفكرة التي لا تُمحى مع مرور الزمن لتجسّد فكر الخالد سعيد تقي الدين.

سعيد تقي الدين، الأديب القوميّ الذي أسهم بحضور أدبي رفيع في المشهد الثقافي العابر لحدود الأمة، حيث يُعتبر من الأسماء التي ترسّخت في الذاكرة الأدبية والفكرية، باعتباره المفكر الملهم الذي اعتنق عقيدة الحياة فكانت له حبر الإبداع ولغة الفكر والمعنى الوجودي المندمج بالعمق الفلسفي والواقع الاجتماعي، الذي انعكس كالنور الإلهي في كل التجارب الإنسانية والوطنية والقومية.

لا يقتصر الأدب عند تقي الدين على كونه وسيلة للتعبير، بل هو قوة ماديّة روحيّة مستمدّة في جزء كبير منها من مدرحية المفكر والفيلسوف أنطون سعاده، لتتحوّل إلى طاقة إبداعية تتجاوز حدود الكلمات لتصبح فلسفة حياة.

الظاهرة الاستثنائية:

من هنا نجد أنفسنا أمام سلسلة من الأسئلة الوجوديّة التي تبحث عن إجابات في ثنايا العوالم الموازية. ففي أعماله، لم يكن تقي الدين مجرد ناقل للحقائق، بل كان الباحث عن المعنى وراء كل تفصيل، ورائداً في اكتشاف تفاصيل الحياة الإنسانية بأبعادها الوجودية والمجتمعية، متسائلاً عن المدى الذي يمكن للفكر أن يصل إليه في ظل التحدّيات المتزايدة التي يواجهها أبناء الأمة.

لذلك، فإن الكتابة عن سعيد تقي الدين ليست مجرد نقل معلومات ولا تحليل نص أدبي ولا تقليب صفحاتٍ فلسفية اخترقت السياسة وعلم الاجتماع، بل هي رحلة إلى أعماق فكره الفلسفي الذي يعكس صراع الإنسان مع واقعه، بحثاً عن هوية تمزقها الأزمات وتلاحقها الأسئلة عن معنى الوجود.

من هنا، نفتح أبواب هذه المقاربة الفلسفية التعبيرية، مستعرضين تأثر وتأثير تقي الدين العميق في الفكر العربي والقومي وصولاً إلى العالمية، متوقفين عند أسلوبه المتميّز، والذي كان خليطاً بين التنظير الفلسفي والرؤية الاجتماعية، لتشكيل تصوّر أدبي يتجاوز التقاليد ويدعو إلى التغيير والتطوير في بنية الوعي المجتمعي.

من هذا المنطلق، نرى بأن سعيد تقي الدين هو الظاهرة الاستثنائيّة التي طرحت إشكاليّات علميّة وضعت على طاولة البحث العلميّ، كما فرضت تقنيات لتقصي الحقائق عن الأسباب الكامنة وراء إبداع كاتب قدير جعل له مكانة خاصة بين الكتاب العظماء والمفكّرين الكبار.

تفرّد سعيد تقي الدين باعتباره ظاهرة أدبيّة، أما أسلوب البحث هنا، فهو الدمج بين المنطق والوجدانيات وتقديم مقاربة موضوعيّة تبدأ بطرح تفرّد سعيد تقي الدين بعدة جوانب يمكن أن تكون مؤشراً على تميّزه واعتباره ظاهرة أدبيّة وأهمها:

– الأسلوب الأدبي الفريد: الذي يتميّز بالكثير من الخصوصية والتفرد، حيث اعتمد سعيد تقي الدين على لغة شاعرية غنية بالصور البلاغية والاستعارات التي تدعو القارئ إلى التأمل والتفكير واستطاع أن يعبّر من خلال هذه اللغة، عن مفهوم الذات والعالم بطريقة فلسفية، حيث يدمج بين الوجود والعدم، ويثير تساؤلات وجوديّة عميقة عن الهويّة، والزمان، والمكان يظهر هذا في استخدامه للرمزية، التي تعكس التناقضات الداخلية للإنسان في مواجهة قضايا الوجود.

– الوجود والزمن في أدب سعيد تقي الدين: نجد أن الزمن ليس مجرد امتداد خطيّ، بل هو متداخل مع الذاكرة والتجربة الشخصيّة فهو يشير إلى الزمن كحالة نفسية ومعرفية تتشكل في داخل الفرد، مما يعكس رؤية فلسفية تعكس اهتمامات مثل الفلسفة الوجوديّة وتهتمّ بأسئلة الوجود والموت والمصير.

– التأمل الوجوديّ: يمكن أن نرى في كتاباته تعبيرات عن قلق وجوديّ، حيث يطرح أسئلة عميقة تتعلق بالوجود والمعنى والبحث عن الحقيقة هذه الأسئلة تأتي في إطار لغة فلسفية تتداخل فيها الذات مع الكون، والطبيعة مع الفكر. ومن خلال هذا الحوار بين الداخل والخارج، يُبرز تقي الدين التوتر بين الإنسان وعالمه.

– التعبير عن المعاناة الإنسانية: أسلوب سعيد تقي الدين يعبّر عن حالة من الألم الداخلي والمعاناة الناتجة عن الصراع بين رغبات الإنسان وواقعه. هذا يعكس جوهر الفلسفات الوجوديّة التي تركز على الكفاح الداخلي للإنسان في سبيل إيجاد معنى في عالم يبدو غير مترابط أو فاقد للمعنى.

– التجربة والتفسير: يمكن للقصيدة أو الرواية عند سعيد تقي الدين أن تُمثل تجارب حسيّة أو وجدانيّة معقدة تحتاج إلى تفسير فلسفيّ أعمق إذ تُظهر كيفيّة تأثير التجربة الشخصيّة على فهم الفرد للواقع وللعالم من حوله.

من خلال هذا المنظور، يمكن فهم أسلوب سعيد تقي الدين الأدبي كنوع من الفلسفة التعبيريّة، حيث تمزج بين التجربة الذاتية والأسئلة الوجودية الكبرى، وتدعو القارئ للتفاعل مع النصوص على مستوى عميق من التأمل والبحث الفلسفي.

التوجّهات الفكريّة عند سعيد تقي الدين

أما بالنسبة إلى التوجهات الفكرية عند تقي الدين، فهو من المدافعين عن قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية، وهو ما تجلّى في أعماله التي تتناول واقع الأمة وتعكس هموم الإنسان في العالم العربيّ، كما أنه ارتبط بالقضايا السياسية والاجتماعية في فترات معينة من حياته، ما منح كتاباته طابعاً نقدياً.

من هنا كانت لتقي الدين مساهمات مهمة في التجديد في الأدب العربي خاصة في المرحلة التي كان الأدب العربي يعاني فيها من التراجع والأعمال التقليدية إلى حد ما، حيث قدّم إضافة نوعيّة من خلال الابتكار في الأسلوب الأدبي، إذ كان يميل إلى إعادة صياغة القيم الأدبية والفكرية بطريقة معاصرة.

ومن أهم مميزات تقي الدين هو تفاعله العميق مع التراث الأدبي العربي، إذ كان ينهل من الكلاسيكيات، لكنه في الوقت نفسه كان يسعى إلى تجديد اللغة والمفردات الأدبية. هذا المزج بين التراث والحداثة كان جزءاً أساسياً من تميّزه.

بالإضافة إلى ذلك، لا بدّ من الحديث عن الثراء المعرفيّ عند سعيد تقي الدين فقد كان قارئاً نهماً في مختلف المجالات الفكرية والفلسفية، وهو ما أثر في كتاباته، فكان يتجاوز الأدب ليشمل مواضيع متنوّعة كالسياسة، التاريخ، والفلسفة، ما جعله واحداً من الكتاب القلائل الذين يمكن اعتبارهم موسوعيّين في الفكر.

إذاً، يمكن القول إن تقي الدين تميّز عن معاصريه بقدرته على الجمع بين الأسلوب الأدبي المبدع والفكر المتجدد الذي يعكس تحولات المجتمعات العربية في تلك الفترة. ربما لا يكون هذا النوع من الكتابة قد تكرر كثيراً في هذا الشكل، مما يضفي عليه خصوصية أدبية ويجعل تصنيفه كـ”ظاهرة أدبية” ممكناً إلى حد كبير.

أما بالنسبة إلى المنهج العلمي الذي أتبعه، فيمكن الاستعانة بمقاربة المفكر القومي جان داية حين كتب عن سعيد تقي الدين الذي لم يسمح بالقول بأن سعيد ظاهرة أدبية لا تتكرّر، حيث قيل ذلك عن جبران، فكان سعيد؛ أما القول بأنه ظاهرة أدبية قل نظيرها، فهذا صحيح وعلى ذكر الظاهرة (phénomène)، فسعيد ليس فقط ظاهرة أدبية، بل حزبية فنادراً  ما تجد أديباً مبدعاً قطع شوطاً في العمر والنتاج والشهرة، ينتمي إلى حزب كما فعل سعيد وهو في السابعة والأربعين. في العادة، الأدباء الواعدون ينتمون إلى الأحزاب، حتى إذا ريَّشوا يطيرون.

أما إذا أردنا الغوص في سعيد تقي الدين كظاهرة حزبيّة، فيمكن القول من هذا المنظور بأن انتماءه إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي كان له تأثير كبير على أفكاره، وعلى طريقة تعاطيه مع الأدب والسياسة فقد جمع بين الأدب والفكر القومي، وكان له دور فعال في نشر أفكار الحزب وتوجيهها، خاصة في ما يتعلق بالقضايا السياسية والاجتماعية في لبنان والعالم العربي.

كما أن أفكار الحزب السوري القومي الاجتماعي التي كان تقي الدين يتبناها كانت تمثل دعوة لإعادة إحياء الأمة السورية ووحدتها، وهو ما تكرّر في كتاباته، سواء كانت في الشعر أو المقالات أو أعماله الأدبيّة بشكل عام.

وفي إطار القوميّة التي تبناها، كان تقي الدين أيضاً ناقداً للوضع السياسي والاجتماعي في العالم العربي، حيث كان يوجّه انتقادات حادة للأنظمة الاستعماريّة والحكومات المحليّة التي اعتبرها مسؤولة عن تفرقة الأمة السوريّة وتقسيمها، كما كان يرى أن الأمة السورية لا يمكن أن تحقق نهضتها إلا إذا تخلّت عن التجزئة السياسية والاقتصادية التي كانت تفرضها القوى الاستعماريّة، ودعا إلى استقلال سورية ووحدتها الجغرافية الطبيعية.

في هذا السياق، استخدم تقي الدين الأدب والشعر كأدوات لنشر أفكاره القوميّة، كما كان يرى أن الأدب يمكن أن يكون أداة توعية ثقافية وفكرية تساعد في بناء الوعي القومي بين الأفراد.

في النتيجة نرى بأن سعيد  تقي الدين هو ابن الثقافة القوميّة التي تنتج بدورها المواهب الأدبية والفلسفية وتمنح الأفراد الفرص للتعبير عن أنفسهم وتطوير أفكارهم بطرق مبتكرة، مما يؤدي إلى ظهور مواهب في الكتابة والفكر الفلسفي. فالثقافة القومية القوية تعمل كحاضنة للإبداع الفكري وتساعد الأفراد على بلورة أفكارهم والتفاعل مع تراثهم الثقافي، مما يعزز الإنتاج الأدبي والفلسفي كما تعزّز هذا الإنتاج عند تقي الدين الذي كتب في المسرح، والقصة القصيرة، والمقالة الأدبية والاجتماعية والسياسية، والخطبة، والرسالة، ورفة الجناح، والمذكرات، وأبدع في كل لون أدبي ذكرته، وبنسب متفاوتة. كما نجح سعيد في أدبه الشخصي، وقد ساعده في النجاح بحسب جان داية عاملان هما: الصدق والسخرية.

الصدق: نظراً لممارسة معظم الأدباء عكس ما يكتبونه، فإن صدق سعيد يساهم في رفع مستوى أدبه، لأنه يجعل القارئ واثقاً بالأديب بقدر إعجابه بأدبه. وإذا أخذنا كتابات سعيد عن سعاده وخصومه، نجد قيمة الصدق في أدبه وعلى سبيل المثال: “حدثني الكاهن الذي عرفه”، التي غدت قطعة أدبية مميزة لدى الكثيرين ممن سمعتهم، وبعضهم من خصوم سعاده.

السخرية: لم يكن سعيد أول أديب ساخر عندنا. فهناك ساخرون كبار سبقوه وعاصروه ولحقوه، أمثال أحمد فارس الشدياق، سليم سركيس، الشيخ إسكندر العازار، سعيد فريحة، ومحمد الماغوط. وكانت سخريّة سعيد تقي الدين قبل الانتماء وبقيت بعده، ملتزمة ولم تكن أبداً من أجل السخرية والفكاهة والضحك إنها وسيلة مغناطيسية لتحقيق هدف قومي أو اجتماعي أو مناقبي وقد نجحت في تحقيق ما استهدفت.

فلسطين في فكر تقي الدين

قبل أن نختم هذا المقال لا بدّ من الإشارة إلى أن فلسطين كانت حاضرة بقوة في أدب سعيد تقي الدين، إذ كانت تمثل قضية محورية ومؤثرة في فكره وأدبه فلم يكن تقي الدين يقتصر على الكتابة عن فلسطين كموضوع جغرافي أو سياسي فحسب، بل كانت تجسد له معانيَ أعمق تتعلق بالهوية القومية، والكرامة الإنسانية، والتحرّر من الاحتلال الصهيونيّ.

في أدبه، كانت فلسطين رمزاً للنضال القومي والوطني، ومثالاً للألم المشترك الذي يشعر به كل إنسان تجاه ما يعانيه الشعب الفلسطيني من ظلم واحتلال.

لقد استخدم سعيد تقي الدين في أعماله الأدبيّة العديد من الرموز والمصطلحات التي تعكس التفاعل العاطفي والوجداني مع معاناة فلسطين، كما لم يكن أدب تقي الدين مجرد تجسيد للألم، بل كان بمثابة دعوة للوعي الجماعي والتحرك الفعلي، فكان لكتاباته الصوت الذي يصدح بحقيقة أن فلسطين ليست مجرد قضيّة محليّة، بل هي قضية العالم بأسره.

بناء على كل ما تقدم، لا بدّ من القول إن سعيد تقي الدين من الأدباء الذين تركوا بصمة واضحة في الأدب من خلال مصطلحاته الأدبيّة التي كانت تمثل رؤية عميقة ورافضة للواقع لقد كان يُتقن استخدام اللغة بشكل فنيّ يعكس فلسفته الخاصة في فهم الحياة والوجود، إذ تمكّن من صياغة مفردات ومصطلحات أدبية عكست تفاعله مع قضايا مجتمعه وهموم أمته.

كانت مصطلحاته الأدبية تتَّسم بالعمق، ولا تقتصر على التعبير السطحي، بل تحمل في طياتها أبعاداً فلسفية وقومية تنم عن وعيه الكبير بما يُحيط بالأمة السورية والعالم العربي من تحديات. وقد عكست هذه المصطلحات هويّته الفكريّة واهتمامه الكبير بتحقيق التوازن بين التراث والحداثة، وبين الخصوصيّة القومية والعالمية.

من خلال هذه المصطلحات، استطاع تقي الدين أن ينقل مفاهيم فلسفيّة معقدة بطريقة مبسطة لكنها قوية، مُستخدماً الأدب كأداة للتغيير الفكريّ والاجتماعيّ لذلك، يمكننا القول إن مآثره الأدبية تتجسّد ليس فقط في نصوصه نفسها، بل في لغته الخاصة التي أضافت عمقاً جديداً للمفردات الأدبية العربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى