القصّةالمجلة

الفنجان الثّاني – أ. نسرين بريطع

الفنجان الثّاني

أ. نسرين بريطع

 

– … ولا يزال الفنجان حاراً منذ خمسة عشر عاماً يا أحمد…!

– وكيف ذلك يا مريم؟

كان سؤاله سؤال العارف الرّاغب بالمزيد. تنهدت مريم من أعماقها والدّمع يترقّق في عينيها العسليتين وراحت تكمل حديثاً لا تملّه، بصوتٍ أقرب إلى الهمس:

– كلّ صباح تضع فنجانها بمحاذاة فنجانه، تسكب قهوتها في الأوّل وتترك الآخر فارغاً إلا من أشواقٍ وحنين، ينتظر عودة الغائب الحاضر في كل ذرةٍ من كيانها.

اعتاد أبي قبل أن ينطلق الى ساحات العشق مع رفاق الجهاد أن يكون آخر ما يفعله هو شرب القهوة معها، سواء كان ذلك صباحاً، ظهراً أو حتى في السّحر. طقسٌ فيه الكثير من الحبّ والود والأنس، يمارسه الزّوجان بانتظام، وكأنّه فرمانٌ رسميٌ مرعي الإجراء، حتى جاءت تلك الليلة…

وضَّبت أمي الحقيبة على عجل، أفرغت محتواها على السّرير، وأعادت توضيبها ثانيةً، ثالثةً، فرابعة…

– ما بالك مرتبكةٌ يا أم علي، وكأنّها المرّة الأولى التي تجهزين فيها حقيبتي. قالها مبتسماً وبريق اللّطف يشعّ من بحر عينيه.

– لا أدري، أشعر بأني نسيت أن أضع شيئاً مهماً من أغراضك…أو ربما… لا أعلم… أشعر يا محمد بأن سفرك سيطول هذه المرة.

تلعثمت وهي تلفظ جملتها الأخيرة. ربَّت على كتفها بودٍ وهو يهمس مبتسماً:

– لا عليكِ يا أم علي، أنا معكِ دوماً. سألقي نظرةً على الأولاد، ومن ثم نخرج سويةً إلى الباحة لنحتسي أطيب قهوة من “إيدين” الغالية. وأكمل ضاحكاً: لاشك أنَّ علي ذاك العفريت الصّغير قد أوقع لحافه على الأرض كالعادة…

جلس الزّوجان في الباحة قرب شجرة الياسمين، سكبت أمّ علي القهوة في أحد الفنجانين وقبل أن تسكب في الآخر طُرقِ الباب على عجل، نهض أبو علي يستطلع الأمر.

– صديقي محمود يستعجلني بالخروج، علينا الانطلاق قبل الموعد المحدّد لأمرٍ طارئ…عذراً يا عزيزة الرّوح، سأضطر للمغادرة فوراً.

– والقهوة..!!

– نشربها سوياً عندما أعود…

– عندما تعود…!!

ضربات قلبها اشتدت فجأةً، ومال لون خديها المتوردين الى الإصفرار… انحنى بهامته الطّويلة نحوها، وقد أخذته الرّأفة بحالها، فهو لم يرها هكذا من قبل. قبَّل جبهتها بحنانٍ هامساً:

– قرّي عيناً يا عزيزة الرّوح، ليست المرّة الأولى… انتبهي على حالك وعلى الأولاد… بأمان الله.

حمل حقيبته واتّجه نحو الباب مغادراً. لم تستطع أن تنبس ببنت شفه، شيّعته بنظراتٍ شاردة، ونبضٍ متسارعٍ صارخٍ… الله معك يا أبو علي.. الله معك…

***

في البداية، كنّا كلّما شهِدنا الخلوة الصّباحيّة لأمّي مع الفنجان الثّاني، نشعر بالذّهول. مرَّت الأيام، الشّهور، السّنوات ومازال ذلك الطّقس الصّباحيّ متألّقاً متوهّجاً في قلبها. تُحضِّر القهوة بعنايةٍ بالغة، تضع على الصّينيّة الخزفيّة زرين أو ثلاثة من ياسمينة الدار. محمد يعشق الياسمين. تسكب القهوة في الأوّل، وتفرغ في الآخر كلَّ ما في جعبتها من حكايا وأسرار، أحزانٍ ومسرات.

لم أتجرأ يوماً أنا أو علي على سؤالها: إلى متى هذا الانتظار؟ هي بدورها، كانت تقرأ السّؤال المتكرّر في حدقات عيوننا، ولكنّها آثرت الصّمت كلّ هذه السّنوات، ربما، لم تكن ترى أنَّ ثمة كلاماً في هذا الكون يستطيع التّعبير عن شوقها وحنينها لحبيبها مفقود الأثر.

ومع أنّها لم تتحدّث يوماً صراحةً عن سرّ الفنجان الثّاني، لكن عبق خلوة الحبيبين كعطر الياسمين، أذاع من أسراره الكثير. فكم من مشكلةٍ وجدت سبيلها للحلّ بعد إحدى تلك الجلسات الصّباحيّة المشبعة بطعم الحنين، وكم من رأي سديد ظهر بعد تعثّر الأفكار وتضارب الآراء. كانت تطرح الموضوع تناقشه من وجهة نظر أبو علي ومن بعد تدلي برأيها، وبعد مداولاتٍ ومشاورات تجول وتصول في أعماق وجدانها لتقريب وجهات النّظر، تخرج أخيراً بالقرار المناسب.

تلحظ مريم الدّهشة في عيني أحمد. فترتسم على شفتيها ابتسامة صغيرة تلقائيّة، وتكمل حديثها وكأنّها تجيب عن سؤالٍ ارتسم في عينيه:

– أم علي تُشاور زوجها – الغائب الحاضر فيها – لأنّها تعرفه كما تعرف نفسها. طريقة تفكيره، وجهات نظره، ثوابته ومنطلقاته في طرح المسائل وإيجاد الحلول، وكأنّ ابتعاده لأيام طويلةٍ عنها في ساحات الجهاد لم يزدها به إلا قرباً. ما زلت أذكر ما كانت تردده على مسامعنا دوماً بشغف:

– “أبوكم يا ولاد كل ما بيرجع من فوق بكون شفاف وصافي متل المي بجبل صافي، بشم ريحته قبل ما يجي بمسافات طويلة لأنه حامل معه عبق الأرض المعطّرة بعرق المجاهدين ودمّ الشّهدا”…

يستحيل التّساؤل في عيني أحمد إلى بريقٍ هادئ بلون اليقين، ويُعقِبُ على كلامها قائلاً:

– هي إذا قصة عشقٍ أرضي أمتزج بالعشق السّماوي يا مريم.

– تماماً… وهكذا يا أحمد ما يزال الفنجان الثّاني حاراً منذ خمسة عشر عاماً.

– وأظنه سيبقى حاراً دوماً يا مريم…!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى