مقالات

على حافّة القيامة

على حافّة القيامة

ليندا حجازي

 

السفر الأوّل: البلاد الّتي لم تُصلَب

 

أطرقُ باب الذكرى، فأسمعُ صدى رنين الناقوس يعانق أذان الفجر، وأبصرُ الضياء يفيض من كفّ العذراء، ليغسل وجه الجنوب  الحبيب.

هكذا تُحاك الأزمنةُ، بخيوط الصوت والنور، وهكذا يتهجّد لبنانُ في صلاة لا تنقطع.

من قانا الجليل، حيث الماء يفيض  خمرًا، إلى قانا الجرح، حيث الدم يفيض نورًا، يسافر لبنان في سفرٍ لا ينتهي، بين الألم والقيامة، بين السيف والصليب، بين الجوع والخبز الذي لا يفنى. هنا طرابلس، مدينة الوجوه المتعدّدة؛ حيث الأزقّة تحفظ خطى الأولياء والعلماء، وحيث البحرُ يروي حكايات القادمين من الأندلس، والمغادرين إلى الأبد.

وهنا جبل عامل الّذي ما انحنى إلّا لله؛ حيث عليّ بن أبي طالب، ليس اسمًا في التاريخ، بل سيفٌ في الحقّ، وصوتٌ في الضمير، وظلٌّ يرافق المجاهدين إلى كلّ معركة.

في هذا الوطن، تصعد الترانيم من المآذن، ويتردّد الأذان في الأوداء، فيبلغ صوامع الرهبان، ويهطل المطر على القبور، من دون أن يسأل عن الهويّة.

نحن أبناء الجهات الأربع، كلّ جهةٍ تكمّل الأخرى، وكلّ لونٍ يحتاج إلى الضدّ، ليكتمل.

نحن سفرٌ طويل، بعضه  منقوشٌ على ألواح التوراة، و بعضة مكتوبٌ في الإنجيل، وبعضه آياتٌ بيّنات في القرآن، وبعضه صرخة حقّ في وجه جلّاد غاصب، وبعضه ترابٌ ينتظر من يعبر عليه ليحفظ أثر الأقدام.

لا تسلني  من أين أنا؟

أنا من حروفٍ لم تكتمل، ومن ترابٍ لم يهدأ، ومن صلاةٍ لم تنتهِ، ومن وطنٍ لم ينهزم، ولو ظنّوا أنّهم صلبوه .

هنا، في أرضٍ تعانقها الرياحُ، من كلّ الجهات؛ حيث يلتقي البحرُ بالترابِ، في سلامٍ مؤقتٍ، تحملُ ذاكرةُ المكان وشاحًا تشدّه الأرضُ بين عاتقها وكشحها، مرصّعًا بلؤلؤ الزمنِ القديمِ والجوهر.

يطوفُ صوتٌ من الأعماق، يروي حكاياتٍ عن أبناءٍ اختاروا أن يكونوا في الضوء، فتساقطَتْ أسماؤهُْم كأمطارٍ على أسطح الزهور.

في هذه الأرض، يولدُ الشعرُ، ويتناثرُ الحلمُ بينَ الخشبِ والبحر.

 

هنا، حيثُ كانَ الإنسانُ يواجهُ الزمانَ بشجاعةٍ، أطلقَ صرخةً لتتّحدَ مع الأرض، مع البحر، مع الدم.

في هذا المكان، كانت الحياةُ تتجدّدُ في دورةٍ أبديّة، حيثُ الزهورُ لا تذبُلُ، والأرواحُ لا تموتُ، بل تستمرّ في الوجودِ، في دمٍ جديدٍ، تنتقلُ بين الأجيال.

 

تحت السماء الّتي شهدَتْ آلافَ الحكاياتِ، وتحتَ الأرضِ الّتي لا تخونُ، كانت هناك دائمًا رغبة في السموِّ، في الانتصار على الموت، في تخليدِ اسمٍ في المَدى. وكأنّ الأزمنة جميعها تتصارعُ، لتخلقَ حالةً من الوجودِ الأسمَى الّذي يرفضُ أن يكونَ مكبّلاً، أو محدودًا.

 

هكذا كانَ الوطنُ، في كلِّ شبرٍ منه، يتنفَّسُ من روحه الخاصّة، ويخفي بينَ طيّاته أسرارًا تتجاوزُ حدودَ الفهم. هو حالةٌ حيَّةٌ تتجدّدُ مع كلِّ نبتةٍ، مع كلِّ خطوةٍ، مع كلِّ صلاةٍ تُرفَعُ. في أغنيةٍ أبديّةٍ، تنتشي كلّما لامَسَتِ الرياحُ أغصانَ الزيتون.

 

رؤيا في مرآة الجرح

 

السفرُ الأخير: السّاعةُ الّتي لم تأتِ بعد

 

أيُّ ريحٍ مزّقَتْ حجابَ الأزمنة، فأزاحَتِ الغبارَ عن وجوهِ الغائبينَ، وجعلتِ الصدَى يُنطِقُ الأجراسَ، فاهتزّتِ المآذنُ، وارتعش النورُ بين محرابٍ ومذبح؟

أيُّ ومضَةٍ في الظلام، جعلت الماءَ واحدًا في أقداح العطشى، فجاءتِ الأرواحُ إلى مائدةٍ، لا ظلّ فيها إلّا الحقيقة، تتقاسم خبزَ التوبةِ ورمادَ الأمل؟

أهوَ نذيرُ القيامة، أم أنّنا نحفرُ، في جوعنا، أخدودًا لولادةٍ لا تشبه أيّة ولادة؟

لبنان يصومُ كلّهُ هذا العام. عروقُ الجغرافيا تنبضُ بمواقيتَ واحدة، والأفقُ يمدّ ظلَّه على كنائسَ ومساجدَ تأتلفُ في جوعها, كما لم تأتلفْ في أعراسها وأعيادها، والفجرُ يبزغُ كأنّه صلاةٌ تنتمي إلى ترابٍ يعيد ترتيب ذرّاته في وجوه الشهداء.

أهو نداءٌ أطلقه الموتُ في ساحاتنا، فجعلنا نتقاسمُ التمر َوالماءَ، بعدما تقاسمنا الدّم؟

أم هي آخرُ صلاةٍ قبل أن ينطفئَ قنديلُ الهيكلِ الأخير؟

 

أَخِي في الجغرافيا… أَخِي في الجرح

 

منذ أن رسَتْ سفينةُ نوحٍ على جبالنا، وهذه الأرض قد أتقنَتْ لغةَ الطوفان. كُتِب علينا أن نكون أبناءَ الغرقِ، أن نبحثَ عن خشبةِ خلاصٍ لا تجيء، أن نرتُقَ ثوبَ الوطنِ بدمعٍ يعجز عن غسل الجراح.

أَخِي في الروح، أَخِي في الأخلاق، أَخِي في الجغرافيا، كيف نخرجُ من قيود الدّم، ونحن أبناء أرضٍ تُذبح على حدودها الطوائف، وتُسحقُ بين حجارتها المدن والوعود؟

 

هنا، حيث لا تُحصى السّنون إلّا بعدد الجنائز، وحيث الخرائط تُرسَمُ بالرصاص، يأتي الجوعُ طقسًا توحيديًّا، يلمّ أشلاءنا إلى صحنٍ واحد. لكن أيّةُ مائدةٍ هذه، وأيّةُ نبوءة؟

هل نحن أمام قيامة، أم على حافّةِ الفقد الأخير؟

أيّةُ ذاكرةٍ نحملها، وأيُّ ماضٍ نتّكئُ عليه؟

في صور، حيث كانت إليسارُ تُبحرُ نحو مجدٍ فينيقيٍّ جديد، تُبحرُ اليوم قواربُ الموت نحو مدنٍ لا تفتحُ أبوابها.

في طرابلس، حيث عبر ذات يوم  غزاةُ الفردوس الأندلسيّ، صار البحرُ مزارًا للغرقى. وعلى الحدود، حيث كانت رايات الجنوب ترتفعُ باسم عليّ بن أبي طالب، ترفعُ الريحُ اليوم أسماءً جديدة، مكتوبةً على شواهد من حجرٍ وصمت.

أهذه سُنّةُ الأرضِ، حينَ يضيقُ بها أهلُها؟ أهذه استغاثةُ الجسدِ، حينَ يصيرُ الموتُ لغته الوحيدة؟

 

الجوعُ في لبنان لم يكنْ يومًا مجرّد جوعٍ ؛ إنّما هو نبوءةُ جغرافيا مكتوبة بالدمّ، طقسٌ توحيديٌّ قاسٍ، لا يجتمعُ فيه الناسُ على النور، بل على الخسارة، وعلى رغيفٍ اقتسموهُ، بعدَ أن اقتسموا النكباتِ والخرائط، وعلى فجرٍ كان مبلّلًا بملحِ البحرِ ووجوهِ الغرقى، وعلى بلادٍ تكتبُ تاريخَها على ألواحٍ من نارٍ وطين.

 

أتى يوسُفُ بتأويلِ رؤياه، لكنّه لم يجدْ بيننا قميصًا يُلقى على العيون. نحنُ العالقينَ في الجُبّ، نرفعُ أعيننا إلى قوافلِ النور، لكنّها لا تأتي.

هل كُتب علينا أن نعيشَ بلا تأويل، أن نكونًَ أبناء المجهولِ لا المعجزة؟

كيف نفلتُ من قدَرِ المنافي، ونحن الّذين خسرنا الجنوبَ مرّتين: مرّةً حين صار ساحةَ دم، ومرّةً حين صار أغنيةً بعيدة؟

 

لقد سرقوا منّا الخلاص، كما سرقوا الجغرافيا، وكما سرقوا قمحَ البيادر، وتركوا لنا نبوءاتٍ بلا أنبياء، وصحراءَ بلا موسى، وسماءً بلا معراج.

كيف نمسك أطرافَ الغيم  ونحن الذين ضللنا الطريق بينَ أفقين لا يلتقيان: بين وطنٍ لا يهدأ، وأحلامٍ سرقتها العواصف؟

 

أيُّ خلاصٍ ينتظرُنا، ونحن الّذين نحفرُ قبورنا بأيدينا؟ أيُّ نهرٍ سيغسلُ عنّا لعنةَ التشظّي، ونحن الذين وضعنا على مآقينا الكحلَ الأسود، فلمْ  نَعُدْ نرى إلّا حِدادَنا الممتدّ؟ أهذه الأرضُ منسوجةٌ بدانتيلِ الوجع، أم أنّها كتابٌ من الطين لم يكتملْ بعد، فتركه اللهُ مفتوحًا على احتمالاتِ الفناءِ والبعث؟

 

أيّها الواقفونَ في وجهِ العاصفة، أيّةُ ساعةٍ لم تأتِ بعد؟

أهي ساعةُ الفقد، أم ساعةُ القيامة؟

أهذه الأرضُ لعنةٌ أم ميثاق؟

وأيُّ سرٍّ كُتِبَ فيها، فلا نحن نغادرها، ولا هي تعتقُنا؟

 

أيّها الجائعونَ إلى وطنٍ لا يجيء،

أيّها العالقونَ بين ذاكرةٍ تزدحمُ بالمنافي، ومستقبلٍ ينحني على الخراب. لا تملكُونَ إلّا هذا الجوعَ المقدّس، وهذه الغربةَ العميقة، وهذا الانتظارَ المُعلّق بين صمتِ اللهِ وصدى المدافع.

فمتى يأتي الفجرُ الّذي لا تُمسكه أيدي الطغاة؟

 

أيّها المصلوبون على أسوار الغياب،

أيّها العالقون بين كفّين: كفٍّ تُمسكُ الوترَ وأخرى تُمسكُ السكّين، إلى أين تأخذكمْ المنافي؟

هنا، في هذا الوطنِ المصلوبِ بين الفيزياء الّتي تكسرُ قوانينها كلّما سقطَ شهيدٌ، وبين كيمياء الأرض التي تُمزَجُ بالدمِ في كلّ حرب، تتجلّى المعادلة السُّمْيا: أنْ تكونَ، لاّنّك فكرةٌ تتجاوزُ كلّ الخرائط.

أنْ تصيرَ تسبيحةً في مئذنة،

أو ترتيلةً في دير،

أو ترنيمةً تسرّبَت من صدرِ أمٍّ جنوبيةٍ إلى روح طفلها.

 

مدّ يدكَ… خذها يدي إلى المدى الأرحب؛ إلى حيثُ الأشجارُ لا تميلُ إلّا لنبوءةِ العاصفة، والمياهُ تنحتُ الصخرَ كما ينحتُ الجوعُ ملامحنا، والغيمُ يعبرُ السماءَ بلا جواز،

فلا تُعترَضُ خطاهُ على الحدود.

 

لندّخر الحبَّ قبلَ الخبزِ، فالذي يَعبُرُ هذا التيهَ بلا قلبٍ، يَضيع.

لندّخر الوفاءَ قبلَ الثروات، فالممالكُ الّتي تُبنى على الخيانةِ تتهدّمُ كلّما انعطفَ التاريخُ على نفسه.

لندّخر السماءَ قبل الأرض، فالأوطانُ الّتي لا تُعمِّدُها الآلهةُ بالبرقِ والرعدِ، لا تعرفُ الخلود.

 

أيّها الواقفونَ على شفرةِ الزمن، هل سمعْتُم صهيلَ الحلمِ الأخير؟

هل لمحْتُم كيف يختبئ الوطنُ في معطفِ الضوءِ قبل أن يسقطَ في العتمة؟

هل رأيتم كيف يُقاومُ القمحُ بين المحاريث، وكيف يبقى النهرُ وفيًّا لنبعهِ حتّى في أوجِ العطش؟

 

إنّ الشجرَ الّذي يَحملُ أسماءنا،

إنّ البحرَ الّذي يخبّئُ وجوهَ غرقانا،

إنّ الجبلَ الّذي يقفُ مثل نبيٍّ لم يُبعث بعد… كلّها تشهدُ أنّ الترابَ لا يخطئُ في قراءةِ العروق.

 

فلنكن الجسدَ الواحد،

والجرحَ الّذي لا يُساوم،

والحقيقةَ الّتي لا تُشترى.

لنكن صرخةً تمتدُّ، من قانا إلى فاطمة، ومن طرابلسَ إلى الناقورة، ومن النشيدِ إلى الدم، ومن الصمتِ إلى البرق، ومن الأرضِ إلى السماء.

فالوطنُ، هنا، توقٌ، ، هو وجودٌ، وقداسةٌ تدور في فلكٍ واحد.

الوطنُ هو خريطةُ الروحِ التي لا يُمكنُ أن تُدرس، ولا أن تُحتَسب.

فلتكن لنا هذه الرّؤية، هذا العهد الّذي لا يُكسر، هذا الدّفاع المقدّس عمّا لا يُشترى ولا يُستعار.

لنحملَ الوطنَ في قلوبنا، بفعل يقين، ومستقبلًا حرًّا كاملًا،

بلا أسوار، بلا ندوب، بلا غرباء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى