مقالات

المرأة في “وجه ووجوه أخرى” لدريّة فرحات: بانوراما رمزيّة لقوة تتحدّى وتُضيء

المرأة في “وجه ووجوه أخرى” لدريّة فرحات: بانوراما رمزيّة لقوة تتحدّى وتُضيء

قراءة الباحثة – مها هاني المسلّمي

 

تُعدّ القصّة القصيرة جدًّا فنًّا سرديًّا فريدًا، يُشكّل تحديًّا حقيقيًا للكاتب، إذ يفرض عليه أن يصوغ المعنى الكبير في مساحة صغيرة، مستخدمًا الإيجاز والرّمزيّة لفتح آفاق التّأمّل والإيحاء. وفي هذا الإطار، تبرز مجموعة الكاتبة الأستاذة الدكتورة دريّة فرحات “وجه ووجوه أخرى” نصًّا يًضيء قضية محوريّة تتجاوز حدود الزّمان والمكان: قضية المرأة.

تستكشف فرحات عبر تقسيم مجموعتها إلى “تسع كوكبات” كلّ منها تحمل عنوانًا رمزيًّا ودلاليًّا لأبعادٍ متعدّدة خاصةً في الكوكبات الأربعة الأولى الّتي تخصّ بها الذّات الأنثويّة. فمن خلال هذه الومضات السّرديّة المكثفة، تُعرّي الكاتبة القيود المجتمعيّة الّتي تُفرض على المرأة، وتُبرز في الوقت نفسه قوّتها الكامنة، عطاءها اللامتناهي، وبحثها الدّائم عن الحريّة والتّغيير. إنّها رحلة عبر تضاريس الرّوح الأنثويّة، إذ يتجلّى كلّ وجه بصفته رمزًا لحالة، وكلّ وجوه أخرى  شهادة على صراع المرأة الأبديّ لتحقيق ذاتها في عالم متقلّب.

    ” لا توجد امرأة ضعيفة، بل يوجد مجتمع يضعف المرأة”  

تفتتح الكاتبة دريّة فرحات كوكبتها الأولى بقضية تداوليّة جريئة تضع من خلالها حجر الأساس الفكريّ للكوكبة، وتفترض مسبقًا تصوّرًا خاطئًا وهو: نفي ضعف المرأة الذّاتي وتأكيد أنّ المجتمع هو المصدر الحقيقيّ لهذا الضّعف. في قصص الكوكبة نفسها مثل: “رؤية” و”الضّيف” و “خيالات” تتجلّى هذه الفكرة بوضوح. ففي “رؤية” تصوّر الأُمّ الّتي أرهقها تعب السّنين والقنديل الخافت، لكنّ أملها في ابنتها ليخرجها من الظّلمة يشي بقوّة كامنة تتحدّى القهر.  وفي “الضيف” تصل المرأة إلى حالة من اليأس وانتظار النّهاية، ليس لضعف فيها، بل لأنّ الظّروف الاجتماعيّة جعلتها أسيرة العُزلة والخيبة. أما “خيالات” فتمثّل الصّدمة الكبرى؛ إذ تُغتصب هويّة المرأة ويُفرض عليها الصّمت والخوف من الكشف عن الحقيقة، ما يؤكّد أنّ المجتمع بقسوته وظلامه هو من يدفعها نحو هذا الضّعف القسري، لكن الكاتبة لا تتوقف عند هذا الحدّ، بل تُعلي من شأن المرأة في قصتي ” كظيم” و ” مصير” لتؤكّد الجزء الأوّل من القول المأثور: “لا توجد امرأة ضعيفة” ففي ” كظيم” وعلى الرّغم من الرّفض الأبوي الصّارخ للمولودة الأنثى (سمّاها الخامسة) و( كظم وجهه) تتجلّى قوّتها المستقبليّة لتصبح كالجيش الجرار، لتعلن أنّ الضعف الّذي يفرضه المجتمع لا يمحو جوهر القوّة.  وفي “مصير” تشهد تحولًا جذريًّا، إذ تقرّر المرأة “قلب المواقع” لتجعل “شهريار” رمز السّلطة الذّكوريّة هو من يبحث عن حبل نجاته، مُثبتة أنّ قدرة المرأة على التّمرد واستعادة السّلطة هي نفي قاطع لأي ضعف متأصل. تُقدّم هذه الكوكبة بانوراما تداوليّة متكاملة، تُظهر أنّ ضعف المرأة ليس ذاتيًّا، بل نتيجة لما يفرضه المجتمع، وأنّ قوّتها الكامنة قادرة على تجاوز هذا الإضعاف.

 ” إنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة”

تنتقل الكاتبة دريّة فرحات في كوكبتها الثّانية لتُرسخ مفهوم “الريحانة” في جوهر المرأة، معارضةً صورتها كـ “قهرمانة” مُثقلة بالأعباء. القصص هنا تبرز طبيعة المرأة الرّقيقة السّاعية إلى لجمال والسّعادة، وكيف يفرض عليها الواقع أدوارًا قسريّة. ففي ” سلاسل” تحاول البطلة الهروب إلى عالم الأميرات، بحثًا عن مفتاح فرجها ووضعها كـ “ريحانة”، لكنّ هذا الحلم يتحوّل إلى ” قيد” و”ساديّة مرعبة” بسبب قيود المجتمع. أما في “حلم” فسعي المرأة الحثيث نحو “عالم وردي” على ” بساط مرمري” يُمثل جوهر الرّيحانة، ليصطدم بـ “مكنسة بيدها، وقدمين حافيتين منشقتين” كاشفًا عن دور “القهرمانة” الّذي يُفرض عليها قهرًا.

قصة ” قناع” تكشف عن زيف الجمال الظّاهريّ الّذي ترتديه المرأة كـ “ريحانة” تخفي خلفه “عنفًا” كامنًا، في إشارة إلى القهر الّذي يدفعها لارتداء هذا القناع. وفي “انتظار” تُظهر الكاتبة كيف يُمكن أنّ تُجمد قسوة الحياة المرأة وتُفقدها رقتها كـ “ريحانة” مجبرة إياها على “الانتظار” الّذي يزيدها “برودة وحيرة” بدل الدّفء والأمل. حتّى قصّة الرّجل في “مقامات” يمكن تأويلها ضمن هذا السّياق؛ فالصّوت الجميل الّذي “يختنق في صدره” بحثًا عن مقام العجم، يُمكن أنّ يرمز إلى صوت المرأة كـ “ريحانة” الّذي يختنق بسبب الأدوار القسريّة الّتي تصارع لإيجاد ذاتها ومكانتها. تُبرز هذه الكوكبة أنّ شقاء المرأة ليس من طبيعتها، بل تسعى للتّحرّر من أعباء القهرمانة.

“المرأة هي رمز للحُبّ والعطاء، فهي تعطي دون مقابل، وتُحبّ دون توقّع”

تغوص الكاتبة دريّة فرحات في كوكبتها الثّالثة عميقًا في جوهر المرأة كونها رمزًا للحُبّ والعطاء اللامحدود. تكشف هذه القصص عن طبيعة المرأة المعطاءة، لكنها تُسلّط الضّوء أيضًا على الثّمن الباهظ الّذي قد تدفعه نتيجة هذا العطاء غير المشروط. ففي “مرسال” تحمل البطلة رسالة صديقتها “كمن يقبض على الجمر” لتكتشف لاحقًا أنّ المحبوب هو من سكن قلبها. هنا، يتجلّى العطاء المطلق والحُبّ غير المتوقع، لكنّه ينتهي بألم عاطفي شديد، مظهرًا كيف يُمكن للعطاء أنّ يُدمر الذّات دون وعي بالثمن. وفي “كلمات” تعيش المرأة على “وهم الوفاء” من حبيب رحل، لتُفاجأ برسالة تكشف “حُبًّا آخر” في قلبه. تُبرز القصّة كيف يُقابل حُبّ المرأة وعطاؤها غير المشروط أحيانُا بالخيانة، وأنّ اكتشاف الحقيقة قد يُحطّم أوهامًا بنتها على هذا العطاء.  قصّة “أسرار” هي تجسيد حيّ للخسارة الوجوديّة؛ فهي الّتي تستمع لـ ” شجون وآهات” من تُحبّ، وتتمنى “غنجًا” كأقل مقابل، “خسرت حُبّ، وهرمت وحيدة” إنّ تضحيتها وصبرها وعطاءها المستمر أدّيا بها إلى الوحدة والنّدم على ما فُقد من حياتها. أما في “سراب” فالبطلة الّتي “اتكأت على عكازها” وتبحث “عن الحقيقة” حتّى “بياض شعرها” تُكتشف أنّ الحقيقة “لم تزل خلف الباب”. هذا السّعي الوجودي، الذي هو شكل من أشكال العطاء للذّات وللمعرفة، لا يُكافا باليقين، تاركًا المرأة في حالة من الإرهاق والغموض. تُظهر هذه الكوكبة أنّ عطاء المرأة وحُبّها ليسا ضعفًا، بل قوّة تستنزفها أحيانًا بيئة لا تقدرها أو تستغلها.

“المرأة هي الملاك الّذي يُحلق في سماء الحريّة، وهي النّجمة الّتي تضيء دروب التّغيير”

تختتم الكاتبة دريّة فرحات الكوكبة الّتي تخصّ بها المرأة في مجموعتها “وجه ووجوه أخرى” برؤية متفائلة ومُلهمة للمرأة، مُقدّمةً إياها كملاك يُحلق في سماء الحريّة ونجمة تُضيء دروب التّغيير. هذه الكوكبة تُعلي من شأن قوّة المرأة وقدرتها على تجاوز الصّعاب وتوفير الإلهام. في قصّة “قراءة” الجدّة الّتي لم تتعلّم القراءة التّقليديّة، تقرأ “حكايتها” من “غصة وفرح وغضب” مُعلنةُ أنّ “الحياة كتاب مفتوح”. هي تُضيء دروب الأجيال القادمة بحكمتها. وفي “حصاد” تُجسّد المرأة العاملة الّتي “تسابق الفجر إلى الحقل” بقلب “مملوء الرجاء” رمزًا للنّضال والأمل. فعلى الرّغم من أنّ حصادها قد يكون “مجبولًا بتراب الأرض” إلّا أنّ كدحها وصبرها يمثلان قّوة دافعة نحو التّغيير، مثبتة قدرتها على تجاوز الخيبة لتكون منارة إلهام. قصّة “غروب” تُظهر امرأة تجلس على حافة الميناء تُشاهد “القرص الأحمر يرحل” و “السّنون تغرب سارقة أحلامها” لكنّها في النهاية “تبحث عن الشّروق”. هذا التّطلع الدّائم نحو بداية جديدة هو فعل حرية وتغيير، يُحوّل الحزن إلى أمل، ويُعلي من شأن المرأة كنجمة مُضيئة تتجاوز ظلام الماضي. أما في “حياة” فالأكياس المتكدسة الّتي “نزفت طحينًا” رغم محاولتها “الهروب من مصيرها” مع اكتشافها لتبعية أختيها، تُجسد رحلة صعبة. لكن حتّى في هذه المعاناة، يظل سعيها إلى الهروب رمزًا للبحث عن الحرية، ونزيفها قد يكون ثمن التّغيير. تُظهر هذه الكوكبة المرأة قوة لا تُقهر، قادرة على تجاوز المستحيل، وخلق المعنى، وتوفير الإلهام، لتكون بحقّ نجمة مضيئة وملاكًا يحلق في سماء الوجود.

في خضم هذه الومضات السّرديّة المكثفة، تنجح الكاتبة دريّة فرحات في مجموعتها القصصيّة “وجه ووجوه أخرى” في رسم لوحة متكاملة ومعقدة للمرأة؛ فالمرأة عندها ليست مجرد شخصيّة هامشيّة، بل هي محور كوني تتلاقى فيه أقسى التّحديّات مع أسمى أشكال الصّمود والعطاء. لقد عرضت الكاتبة تأثير المجتمع السّلبي في إضعاف المرأة وجعلها “قهرمانة” رغم جوهرها “الرّيحانة” وفي الوقت ذاته، احتفت بقوّتها الكامنة، وقدرتها على العطاء اللامتناهي والصّمود في وجه الخيبات.

ما يميّز درّيّة فرحات في هذه المجموعة هو قدرتها الفائقة على التقاط جوهر التّجربة الإنسانيّة الأنثويّة بتكثيف مذهل. رؤيتها الفنيّة العميقة لا تكفي بالسّرد، بل تتجاوز إلى الإيحاء، لتجعل من كلّ قصّة قصيرة جدًّا عالما متكاملًا يدعو للتَأمل. إنَها تقدَم المرأة بصدقٍ وعمق، مظهرةً وجوهها المتعدّدة الّتي تارةً تقهر وتارةً تقاوم وتنتصر، ما يعلى من شأن القصّة القصيرة جدًّا بصفتها وعاء فنّيًّا قادرًا على حمل رسائل إنسانيّة وفلسفيّة كبرى.

تقدم فرحات المرأة في قصصها القصيرة جدًّا “ملاكًا يحلّق في سماء الحرية” ونجمة تضيء دروب التّغيير”ليس عبر الوعظ أو المباشر، بل من خلال رمزيّة عميقة وإيحاءات مكثفة تُحفز القارئ على التأويل والمشاركة في بناء المعنى، فكلّ قصّة هي وجه جديد يكشف عن تجارب المرأة المتعدّدة، مُسلّطة الضّوء على صراعها الأبدي بين ما تُجبر عليه وما تسعى إلى تحقيقه من حريّة وكرامة وذات. وتبقى “وجه ووجوه أخرى” شهادة فنيّة على أنّ المرأة، حتّى في أقسى الظّروف، تحمل في طياتها قوّة التّغيير ونور الأمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى