مقالات

أمل واللقاء الذي لم يأتِ

أمل واللقاء الذي لم يأتِ

عدوية موفق الدبس

في العشرين من عمرها، وقعت أمل في حب شاعر يجيد الكلمات أكثر مما يجيد الحب، رجلٌ يحيك العبارات كما يحيك العنكبوت شِباكه، ويدثِّر وعوده بالحرير اللفظي دون أن يمنحها شيئًا سوى الوهم. كان يقول لها دائمًا:

 

“أنتِ أملي الدائم، أنتِ الحياة التي أعيش من أجلها، أنتِ أجمل ما حصل معي”.

 

كانت أمل تُصغي إليه، ليس لأنها ساذجة، بل لأنها اختارت التغابي أمامه رغم ذكائها الحاد، كما كان يصفها أساتذتها وأصدقاؤها. لم يكن يوسف شاعرًا فقط، بل كان بارعًا في سرد القصص، ينسجها بأسلوب يخدع حتى العقلاء، وكانت أمل تُجاريه، تدّعي التصديق، تُقنع نفسها قبل أن تُقنعه.

 

لكن شيئًا واحدًا ظل يؤرقها:

 

“متى نلتقي يا يوسف؟”

 

لطالما تهرّب من الإجابة، يختبئ خلف أعذار الانشغال، رغم أنه محاط بفراغ ممتد كصحراء بلا نهاية. كان أحيانًا يرسل لها كلمات رومانسية عبر الهاتف أو يكتب لها قصائد يظن أنها ستجعلها تهيم به أكثر، لكنه كان دائمًا يتجنب اللقاءات الفعلية. كانت أمل تتساءل في نفسها: هل حقًا يحبها؟ هل كانت مجرد أسطورة يعيشها في عالمه المليء بالكلمات، أم أنه يخشى أن يواجه الحقيقة؟

 

وفي ليلة اكتمال القمر، أطلقت أمل أمنية مع شهابٍ عابر: أن تلقاه أخيرًا. وكأن السماء سمعتها، إذ برقم يوسف يضيء هاتفها، وصوته الرخيم يتهادى عبر السماعة:

 

“أملي، ما رأيك بلقاء؟ ألم يحن الوقت لأراكِ؟”

 

شعرت أمل بأن العالم بأسره توّجها ملكة للحظة واحدة، قلبها يرقص تحت أضواء الفرح، فسألته على عجل:

 

“أين؟ كيف؟ متى؟”

 

ضحك يوسف ضحكته المألوفة، وقال بمكر الشاعر:

 

“أنتِ اختاري: فصلكِ المفضل، مكانكِ المفضل، وزمانكِ المفضل.” ثم أغلق الهاتف.

 

رأت في ذلك لغزًا وكبرياء ونرجسيةً إلى حد الجنون، لكنها لم تهتم، فاللقاء كان كافيًا ليغفر كل شيء. اختارت بداية كل فصل موعدًا، والصباح الذي يحبه، واليوم الذي يتفاءل به. كانت تأتي إلى البحر مرتدية أجمل ثوب، تحمل باقة نرجس، تجلس على طاولة صغيرة بكرسيين، تنتظر وتنتظر… لكن يوسف لم يأتِ أبدًا.

 

كان شرطه الوحيد ألا تتصل به بعد تلك المكالمة، ألا تخبره عن الموعد، وكأن اللقاء عنده طقس سحري لا يتم إلا بشروطه الغامضة. استمرت أمل على هذا الحال عامًا كاملاً، حتى حفظ موظفو المقهى وجهها، وباتوا يميّزون باقتها التي كانت تضع نصفها على الطاولة، وتأخذ النصف الآخر لترميه مع الأوراق الذابلة في البيت.

 

كلما مر الوقت، كانت أمل تجد نفسها غارقة أكثر في فكرة اللقاء الذي لن يأتي، تتساءل: ماذا يعني هذا العشق إن كان في النهاية محاطًا بجدران من السراب؟ ماذا عن تلك الوعود التي سقطت مع أول نسمات الرياح؟ ورغم ذلك، كانت تطمئن نفسها بأن يوسف قد يكتشف في يومٍ ما أنه بحاجة إليها كما هي بحاجة إليه.

 

وحين جاء نادلٌ جديد إلى المقهى، لم يستطع كبح فضوله، فسألها:

 

“أراكِ تأتين كثيرًا إلى هنا؟”

 

ابتسمت، بتلك الابتسامة التي تحمل من الحزن أكثر مما تحمل من الفرح، وقالت ببساطة:

 

“أنتظر يوسف، حبيب القلب، ونبض الروح.”

 

لكن في أحد الأيام، أتت أمل بلا موعد صباحي، كانت منهكة، خالية اليدين من النرجس، يملأها التعب حتى كادت تنهار. طلبت من النادل أن يضع هاتفها في الشحن قبل أن ينطفئ، وبعد دقائق، انهالت الاتصالات، وظهرت على الشاشة رسالة قصيرة:

 

“فكّري قبل الانتحار، أخبريني أين أنتِ، افتحي الاتصال!”

 

ارتبك النادل، وردّ على المكالمة. جاءه صوت رجل مضطرب:

 

“أمل، دعينا نتحدث!”

 

ألقى النادل نظرة على أمل، كانت شاحبة، كأنها تحمل عمرًا يفوق عمرها بعقود. لم يكن بوسعه إلا أن يرسل العنوان لذاك الرجل، وإذ به يصل مسرعًا، يحمل حقيبة سوداء، ودفترًا صغيرًا، ومسجلَ صوت. تغيّرت ملامح أمل أكثر فأكثر عندما رأتها، وإذ بها تصرخ قائلة:

 

“يا أيها الطبيب، دعني أذهب إلى يوسف! انتظرته أعوامًا، ما ذنبي حتى لا يكون لي حتى قبر أزوره؟ لماذا تمنعني من أن آتي إلى هنا كل صباح؟ حتى لو لم يكن هناك أمل، حتى لو كان الأمل خيط عنكبوت انقطع مع أول نسمة يأس!

 

“يوسف هاجر من أجلي، وقبره كان البحر… ألم يحن موعد لقائي به؟”

 

اعلم أنه كان يكذب وحاك العديد من الأكاذيب، لكن عليّ أن أذهب، أن أرحل عن هذه الدنيا. لأول مرة أتمنى الموت حتى أتأكد بأن يوسف لم يخدعني، هو حقًا هنالك. يا أيها الطبيب، لقد عشقت الموت من أجل يوسف، اعلم ما ستقول: ماذا لو لم يكن يوسف هنالك؟ ماذا سأستفيد؟

 

أنا سأحصل على أجمل وأصدق شيء، هو الموت.

 

ظلّ النادل واقفًا في صمت، مذهولًا من حديثها، وسؤال واحد يطرق رأسه بلا إجابة:

 

ما ذنب أمل حتى تقع في حب الموت؟

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى