مقالات

حبّ افتراضيّ

حبّ افتراضيّ

منيرة جهاد الحجّار

 

كأنّ الكَون ما عاد لنا، ولم نعد له، استوطن فيه أشباهنا، فماذا عن الحبّ؟ وماذا عن خصوصيّة تُعلن استغاثتها من أنياب احتلال افتراضيّ فرضته التّكنولوجيا على الكون بأكمله؟

مؤسف أن نفترش سماء الكون الأزرق، وأن نجعل الحبّ لعبة بين أصابعه، وأن نتركه يعبث في خصوصيّاتنا كما يشاء! من قال إنّ الحبّ صورٌ، أو عرض ليوميّات لم تعُد مُلكًا لأصحابها، لتصبح مُلكَ كلّ زائر أراد أن يلهو على وسائل التواصل الاجتماعي، فترى تلكَ اللّحظات الجميلة الّتي كانت تسترها جدران المنزل لتخطّ عليها ذكريات لا تُنسى، تتنقّل بين شاشات العالم الافتراضيّ، تجول بلدانًا، وتخطف أبصارًا، إلى أن تصل باهتة، لا يبقى منها سوى رفات يطير مع الزّمن. كأنّه ليل مظلم ما لبث أن خبّأ قمره في صندوق فارغ ووهبه لعالم افتراضيّ، خلق نُسخا لا متناهية من المشاعر المادّيّة الّتي انبهرت بالضّوء وأصبحت كالدّمى بين أيدٍ خفيّة، تعرض ما لذّ وطاب من المشاعر الفيّاضة إرضاءً للشّاشة، وخلفها قد يعبث بركان ثائر بالعلاقات الحقيقيّة! وتصيب هذه العدوى معظم زوّار مواقع التّواصل الاجتماعيّ، وأكثرهم انتشارًا وحاصدًا للشّهرة و”اللّايكات” هو ذاك الّذي يعلن بشكل أكبر عن خصوصيّاته، وقد تطال هذه الخصوصيّات فضائح علنيّة، سترها الله عليه في الواقع، فأبى ونشرها ليشاركها على الملأ، ناهيك عن العروض المادّيّة الّتي يقدّمها هذا العالم للمرأة فيجعلها سلعة تتنقّل بين الشّاشات تحت شعار الحرّيّة متناسية قيمتها كمرأة في فكرها وعقلها بعيدًا من الجسد الّذي سرعان ما تنهشه الأيّام، إنّه عالم افتراضيّ جعل كلّ شيء طبيعيّ! لا حياء، لا خصوصيّة، لا علاقات حقيقيّة، ولا مشاعر طبيعيّة، كلّ شيء اصطناعيّ، كلّ شيء ينادي بالحرّيّة، ولكن ليس أيّ حرّيّة، إنّما تلك الّتي توهم المرء بمفهومها وتجعله أسيرًا لها، تحرّكه كما تشاء، وتعلن عن عبوديّة المادّة، وسحر الضّوء!

متسوّل يمرّ بين النّاس، في عالم رماديّ يطغى عليه الضّوء، يلتقط من هنا “لايكًا” ومن هناك، ويقدّم تنازلات كثيرة ولو كانت على حساب القيم، والمبادئ، والدّين! إنّه الحبّ! نعم هو الحبّ الافتراضيّ الّذي رانَ على قلوب النّاس، واستبدل بالمشاعر الحقيقيّة مشاعر افتراضيّة تتيح أمامه حتّى المحظور، فيظنّ أنّه حرّ، وهو في الواقع عبد بين يدي المادّة واللّذة المؤقّتة! عبد نسي أنّ الحرّيّة هي وعي بالإنسانيّة، ومسؤوليّة لا تلتقي بالمادّيّة، هي رقيّ لا يعرفه التّافهون الّذين يحدّدون معناها كما يشاؤون، بحسب ما تشتهي نفوسهم، وتميل أهواؤهم!

لا حبّ يعلو على حبّ حقيقيّ أغلق نوافذ المادّة، واحتلّ قلبين حقيقيّين، في عائلة هجرت حبّ الانبهار الضّوئي، وفضّلت العبور بعيدًا عن عيون الناس إلى حبّ أبديّ يُخلّده العمل، وتخلّده الذّكرى العالقة بين ثنايا الرّوح، تنتظر في كلّ يوم رشفة صمت يضجّ بالحبّ الصّادق بين جدران الرّوح، لا نداء لقوافل التّكنولوجيا، ولا وقوف على أطلالها كأنّ العالم معنيّ بتلك المشاعر الّتي احتلّت صفحات الضّوء حتى أفرغت الحبّ من داخله وجعلته قشورًا فارغة تتكسّر أمام حقيقة كاذبة تزهو وتتصنع بحبّها… لا أدري ما هذه الظاهرة! كأنّه واجب على الإنسان أن يعرض كلّ خصوصيّة، وكأنّ الإنسان باع نفسه لملاهي الكون الافتراضيّ، وجعل من نفسه فريسة يقبض عليها كلّ صيّاد للهوى.

ختامًا، إنّ العالم الافتراضيّ عالم كبير ينادي بالحقّ، وينادي بالباطل! فإمّا أن نُحسن استخدامه، أو سيسحبنا بتيّاره الجارف نحو المجهول… فلا مساومة على العائلة، ولا على القيم، ولا على الوطنيّة والدّين… كُن إنسانًا وهذا يكفي لخوض هذه التّجربة بثقة نحو الرّقيّ والإبداع، لأنّ الالتحاق بها واجب، إنّما كيفيّة ذلك تعود لنا في خلق توازن بين العقل والقلب! وما أجمل الحبّ الحقيقيّ الّذي يعيش لحظاته الحقيقيّة بصمت بعيدًا من ضجيج ووهم العالم المزيّف بحبّ افتراضيّ! والحبّ ليس فقط للحبيبين، إنّما أيضًا لله، للعائلة، للصّدق في العمل وليس فقط لإيهام النّاس بحسن العمل، لكلّ شيء في الحياة، لأنّ الحياة لا تكون إلّا بالحبّ، فهل في مملكة الحبّ مكان للحروب؟ وماذا لو تخلّى الحبّ الحقيقيّ عن مملكته للحبّ الافتراضيّ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى