مقالات

الوطن والغربة

الوطن والغربة

هند سليمان أبو عزّ الدّين

 

الوطن، ذلك البيت الدّافئ الّذي يفيض حبًّا وحنانًا، وتلك الضّحكات المزيّنة ببريق الضّياء، ونظرة الأمّ الحنون حين تحتضن أبناءها لتقيَهم برد الشّتاء، ورائحة التّراب حين يرويه مطر الخريف، والكنز المخبّأ في ثنايا الفؤاد، حيث تزغرد كتب المدرسة المكدّسة في زوايا الغرفة والذّاكرة، ورحلة الماضي المنسوجة بخيوط الحنين، وتنغرس هوّية تسكن القلب العاشق للحياة، فيستمدّ منها انتماءه إلى أرض وُلِد في كنف مواسمها الخيّرة، وترعرع في ظلّ نبضها العطر، فعشق فيها سكينة المساء حين تلامس الأحاسيس المبهمة، وتغمرها بالفرح والسّلام، وبسمة الصّباح حين تستقبل يومًا جديدًا، يُطلّ فيه الإنسان من نافذة التّفاؤل فاتحًا ذراعيه لاحتضان نهار تركض ساعاته خلف أحلام جميلة.

وهكذا تكبر في بساتين الضّمير أشجار الارتباط  والتّعلّق بالوطن الّذي يختصر أيضًا معنى العائلة والأسرة، فعلى طرقاته المزيّنة بالمحبّة تحبو الطّفولة مزهوّة بأنغام ضحكاتها البريئة، ويبتسم الشّباب كربيع يعبق برحيق الزّهور، وتتفتّح الذّات براعمًا فوق أغصان الأمل، لتزدهر قدراتها في دفء المنازل المكلّلة بالعطاء.

وفجأة، تظهر ملامح الرّغبة في التّغيير، فتضيق المساحات، وتسافر طيور الأحلام فوق المسافات، فيتدفّق غدير الأماني على مقاعد الدّراسة وفي حقول الرّجاء، وتتسّع الآفاق المنبعثة من بساتين الطّموح، فتنمو ورود البحث عن سبل النّجاح، لتُرسل عطرها إلى بلاد بعيدة.

وقد تكون فكرة تحقيق الأمنيات والطّموحات وراء الرّغبة في الهجرة، فهي تغزو عقول بعض النّاس، ويتأثّر بها الشّبّان والشّابّات لأنّهم متحمّسون إلى الحصول على كلّ ما يريدونه، ولعلّ هذا ما يجعلهم يظنّون أنّ تحقيق النّجاح المادّي والمعنويّ قد يكون أسهل في بلاد أخرى، لذا يشعرون بأنّ طموحهم يدعوهم إلى الاغتراب والبعد عن الوطن، فتدغدغ أجنحة السّفر خيالهم، وتحثّهم على الرّحيل إلى عالم مليء بالكنوز المرصّعة بالسّعادة والرّاحة والأمان.

وهكذا يصبح جواز السّفر مفتاح باب الحياة الهنيئة، فيخبّئ الكثيرون ذكرياتهم في حقيبة، لينشدوا الغربة تاركين وراءهم عيونًا تكحّلها الدّموع، ويكسو الشّوق جفونها، فلا تجد لها أنيسًا غير الصّبر والانتظار، لتحظى بأيّام قليلة تمضيها مع أحباب اختاروا الفراق والهجرة، فما أقسى لحظات الوداع وما أصعبها! لكنّها جزء من تجربة يسعى فيها شخص ما إلى تحقيق طموحاته في زحمة مدن غريبة.

وقد يكون السّفر خيارًا يبحث فيه المرء عن رغد العيش، لكنّه خيار يتركه هائمًا بين براثن الماضي والحاضر والمستقبل، حائرًا بين الدّروب والحنين، تائهًا بين تزاحم المشاعر المتناقضة، فيصفّق الضّجيج في بحور خبايا كيانه، ويختنق الصّوت باحثًا عن معناه، فيعلو إلحاح الأسئلة، وتضيع الإجابات في غابات بعيدة، حين يترك الإنسان الأهل والجيران، وحقلًا من الذّكريات، وشيئًا من ذاته، ويسمع في أذنيه بكاء المسافات الشّاسعة، فيحسّ بألم يعتصر قلبه، ويُحاصر حلقه بغصّة ممزوجة بطعم المرارة، وبين الشّوق والتّمنّي تقلع رحلته إلى مكان مجهول وغريب، لا يعرف عنه إلّا قليلًا من الحكايا والصّور.

ويهتف نداء الطّائرة داعيًا إلى السّفر، فيسرح الخيال الحالم في تصوّر بلاد الاغتراب الّتي أصبحت أنموذجًا يُحاكي أمنيات إنسان يُحاول إيجاد مكان يحتوي أحلامه، ويحتضن حبّه للسّير على دروب الوعود الجميلة، وفي رحلة بحثه عن هذا المكان يصادفه الوقت محفوفًا بالرّسائل والمخاطر، وتتلوّن أمامه السّبل مرصّعة بفسيفساء عجيبة تناديه ظلالها لتلقيه بين اليأس والأمل، والحزن والفرح، والغرق والنّجاة، ومن حكايا أحاسيسه المبعثرة خلف رصيف الانتظار، يستيقظ الرّجاء في صدره ليرسم صورة مستقبل مشرق خلف البحار، فيحثّ الخطى مسرعًا نحو نداء الغربة، وتبدأ الرّحلة…

وهكذا تطأ قدم الإنسان بلدًا آخر فتتغيّر حياته، ويكتسب تجارب جديدة تحفر أخاديدها في شكله، وترمي آثارها في صمته وكلامه، وتترك بصمتها على ملامح وجهه، ونبرة صوته، وابتسامته المتأرّجحة بين الانطلاق والحذر، فتُحاصره رياح التّحدّيات، وتهاجم ثقافته ولغته ومفاهيمه الاجتماعيّة، ليعيش في صراع مع نفسه متسائلًا عن معنى السّعادة، وباحثًا عن مكان يحتويه في عالم يحتاج التّكيّف معه إلى عزيمة قويّة وإرادة صلبة لأنّه يختلف كثيرًا عن عالمه الّذي كان معتادًا عليه.

ففي مقابل حسنات الهجرة، يكتشف سلبيّات غابت عن باله ونسي وجودها، فهو لم يكن يعرف أنّ المرء يجد نفسه في بلد الغربة وحيدًا في بيته في ساعات المرض، ينادي أقاربه فيُجيبه صدى صوته مثقلًا بالحسرة، فلا أحد يسمع أوجاعه، ولا أحد يمسح بمنديل حبّه دموع تعبه المتساقطة على خدّ يفتقد المحبّة، لأنّ الإنسان، في بلد الاغتراب، قد يحظى بالعناية الطّبيّة، لكنّه لن يحصل على دفء عائلة تُشعره بالأمان.

أمّا في أيّام نشاطه وقوّته، فتُسابقه أحلامه، وتتخاطفه ساعات السّعي إلى التّفوّق وتأمين مقوّمات الاستقرار والعيش الكريم، فتفرض سطوتها عليه، لأنّ النّجاح في كلّ مكان يحتاج إلى السّهر والتّعب، وهكذا تتقاذفه التّجارب، وتخطّ سطورها في حياته، فيضجّ في رأسه الوقت، ليدعوه في كلّ يوم إلى مزيد من التّقدّم في طريق البحث عن تحقيق الذّات، فيبني من حجار أعوامه بيتًا في بلد يفتقد فيه الأهل، لكنّه يجد فيه العمل والأمل، وتتساقط أيّامه كأوراق الخريف، فيألف السّير على أرصفة الهجرة، وبين الفرح والحسرة، والشّوق والنّجاح، يعتاد فراق الأحبّة، وتبحر سفينة مشاعره لتتركه عائمًا بين أمواج الحنين، فيمرّ العمر وقلبه عالق بين الوطن والغربة.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى