الرّوابط العائلية والعادات والتقاليد
الرّوابط العائلية والعادات والتقاليد
سمر توفيق الخطيب
موضوع شائك خَطَر في ذهني، فارتأيت أن أكتب عنه عسى أن أتمكن من أن أعبّر عما يجول في خاطر كثيرين ممن تقدّموا في السّن وأصبحوا عاجزين عن تغيير الواقع؛ وهذا الموضوع يكمن في بقاء بعض العادات والتّقاليد الموروثة الّتي أقرها واعتمدها البشر وتنتقل كما هي غير منقحة من جيل إلى آخر، دون مراعاة الحاجة إلى تغييرها أو تعديلها تماشيًا مع ما قد يَطرأ ويجد، لأنّ الضّرورات تبيح ما يُعتقد أنّه من المحظورات، إذ إنّ ليس كلّ ما هو موروث صالح لأن يستمر ويعيش بيننا كما هو بحذافيره، لأنّ ذلك قد يفقده قيمته الأساسية، فيصبح ثقيلًا على كاهل بعض النّاس ومتعبًا لهم.
فلماذا لا نسهّل الأمور ونجد الحلول، ونقبل بالتّجديد وننشده، لأنّه أصبح يشكّل حبل نجاة لفئة نُحبّها ونحترمها من الأشخاص الّذين يعيشون بيننا، وأصبح من واجبنا احتضانهم والحفاظ على الرّوابط العائليّة معهم وتخفيف قيود التّقاليد عليهم؟
ولماذا نعقد حياتنا ولا نطوع هذه العادات والتّقاليد وفق الحاجة، فهناك دائما مستجدات يلزم عندها إجراء التّغيير في المكان والوقت المناسبين. لا داعي لأن نتمسّك بشدّة بتقليد ما يمكن تطويعه دون أذية أحد، فدائمًا هناك أمور تقتضي عدم التّشدد والتّعنت بإتباعها كما جرت العادة. فحال اليوم قد لا تنطبق على حال الأمس ما يعني أن الظّروف كلّها تتغير ويبقى على الإنسان العاقل تطويع الأمور بما فيه مصلحة الجميع، إذا ما كان فعلًا يهتم بالجميع…
فهناك صراع وتردد في داخل كبار السّن، لأنّهم يرغبون في تعديل بعض ما يؤثر سلبًا في حياتهم، ويُعدون ذلك ضروريًّا لهم، في حين لا يعرفون كيف يغيرون ومتى يفعلون ذلك دون أن يُحرجوا أنفسهم ويجرحوا الآخر؟ ذلك الآخر الّذي يُفترض أنّه يلحظ تقطع أنفاسهم ويسمع أنين خطواتهم ويلمح تجاعيدهم، فيحاول أن يخفف عنهم وطأة الحياة لأنّهم أصبحوا عاجزين عن القيام بكل الأنشطة الّتي اعتادوا على أدائها في السّابق كإعداد الولائم لاستقبال أفراد العائلة على مأدبة العيد أو على مأدبة الإفطار في شهر رمضان المبارك وغيرها من المناسبات؛ فكما يقول أبو العتاهية:
فَيا لَيتَ الشّبابَ يعود يومًا فأُخبِرَهُ بِما صَنَعَ المَشيبُ
فالشباب لن يعود، وهل يُعقل؟ إذ إن التّمني شيء والواقع شيء آخر… لذلك فما الضير إذا ما صوّبنا المسار وأجرينا تعديلات طفيفة على بعض التّقاليد. فكم نحن بحاجة لمن يرشدنا لذلك بعد أن قَلتْ حيلتنا وضاقت بنا السّبل؛ إذ كيف للعاقل أن يحافظ على الرّوابط العائليّة وفي الوقت نفسه يكسر من حدّة العادات والتّقاليد الّتي تثقل كاهل كبار السّن الذّين نُحبّهم ونُقدرهم؟ وكيف يمكن أن نجعل هذه الرّوابط أكثر متانة مع مرور الزّمن حتى لا تبهت هذه العلاقات الأسرية، وتندثر دون أن يعترض على ذلك من لا يمكنه أن يُدرك أنه أصبح من الضروري إجراء تعديل ما هنا أو هناك في التّقاليد المتبعة.
فنحن العرب نتمسّك بالعائلة بشدّة لأنّها الملاذ الآمن عندما يَغدر بنا الزّمن؛ والدّين الإسلاميّ يحثّنا ويحفّزنا على التّواصل العائليّ وصلة الرّحم؟ فكل عاقل منا يهتم بهذه الرّوابط، لأنّنا ندرك تمامًا أنّها أهمّ العلاقات البشريّة وأفضلها وأسماها؛ يقول سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه”، فهل يُعقل أن نقصر ولا نقتدي بتعاليم الدّين؟ لذا، فكل منا يسعى بطريقته الخاصة إلى الحفاظ على متانة العائلة ووحدتها، وبالأخصّ ضمن البيت الواحد؛ وكلنا يخشى، بل ويخاف أن تتصدّع هذه العلاقات أو يصيبها الخلل؛ لأنّنا ندرك أن الصّديق المؤتمن على الأسرار قد يخون، ويتحوّل إلى عدو شرس، بل يصبح قنبلة موقوتة تُدمر حياة أي منا في اللّحظة الّتي يُحدّدها ويَختارها، في حين أنّ العائلة تبقى السّند الّذي تتكئ عليه مهما عصفت بك الظّروف.
وعليه، فإنّ تغيير بعض العادات والتّقاليد لا يُفقد الود أبدًا، بل إنّه أصبح ضرورة لأنّ هذه العادات صنعها الإنسان وعليه يمكنه تبديل بعض قواعد اللّعبة لما هو في مصلحة الجميع، وهنا لا بدّ لي من أن أتساءل:
- ألم يلحظ الآخر التّجاعيد على وجوه كبار السّن؟ نعذره إذا لم يفعل، لأنّ واقع الأمر أنّنا إذا أحببنا شخصًا فإنّه لا يمكننا إلا أن نراه كما عهدناه جميلًا، شابًا شامخًا، قويًا عزيزًا ولا نرغب في أن نغيّر هذه الأفكار أبدًا، وإذا ما غيّرنا يتم ذلك بصعوبة، ونكون غير قادرين على أن نُصدق واقع الأمر. فكيف سيتبادر إلى أذهاننا أنّ قواه بدأت تخور وأصبح بحاجة إلى أن نبادره بذلك الاحتضان الّذي عهدناه منه مسبقًا. فلا يجب أن نتجاهل مسألة كبار السّن ونفرض عليهم الالتزام بتقليد أو عادة ما، مع أنّنا موقنون أنّهم أصبحوا غير قادرين على الاستمرار بها والواجب يقتضي إرضاءهم.
- ألم يلحظ الآخر أنّ خطاهم ثقلت وأصبحوا يمشون الهوينا؟ نعذره إذا لم ينتبه لأنه عادة يسبقهم بخطاه، هل من العيب أن ننبهه إلى أنّ ملامحهم تغيّرت وخارت قواهم؟ يقول سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم: “الرّاحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”
- ألم يلحظ الآخر أن الاهتمام بكبار السّن هو من الواجبات الأخلاقيّة والإنسانيّة، فلماذا يصرّ مستكبرًا رافضًا أي جديد قد يطرأ على بعض العادات والتّقاليد من دون أن يؤثر ذلك أبدًا في مسار حياته؟ ألا يحقّ لكبير السّن أن يدافع عن نفسه، أليس من حقّه أن لا يُهاجم من قبل الآخر ويُتهم بتدمير الأسرة إذا ما أراد إجراء أي تغيير لصالحه.
استميحك عذرًا أيها المتلقي أن تفكر معي وتُرشدني، علّني مخطئة. فأنا أحاول جاهدة أن أرضي الجميع، ولكن تتعثر خطاي وأقف حائرة أمام هذا الأمر، فهل نحن فعلًا على صواب، أم الآخر الّذي يعارض التّعديل لمجرد المعارضة ولأنّه يتمسّك بما ورثه رافضًا أي إضافات أو تغيير؟ فكم يشعرني ذلك بالعجز والخذلان الّذي لا أستطيع أن أعبّر عنه إلا من خلال قول محمود درويش: “كنت أودّ إخبارك بأن الجميع قد خذلني إلّا أنت.. ولكنّك خذلتني قبل أن أخبرك”.
فهل لك أن تتخيل مدى الخيبة والخذلان الّذين نتعرض لهما لمجرد أننا نناشد التّعديل!! حسنا، لا بأس فلعل ذلك يكسبنا المناعة ويعلمنا الدّروس، إلا أن الثّمن قد يكون غاليًا جدًا قد يُزهق الرّوح وينتزع القلب؛ وعزاؤنا أنّ المؤمن مُصاب، فإذا ما اعترضه الآخر، فهذا يحيله إلى التّفكير بروية وتأن عساه يُرمم المكسور ويكسب الوصال؛ فكلنا نخطئ لأنّنا بشر؛ وعلينا أن نحاول أن نتفهم ونستوعب وندرك قبل فوات الأوان؛ يقول سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم: “كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون”.
وفي الختام تبقى الرّوابط العائلية هي الأساس، وتبقى العادات والتّقاليد ركنًا أساسيًا لبناء وتماسك المجتمعات، ولكن يمكننا تطويعها وفق الحاجة حتى نتمكن من الاستمرار بيسر ولا داعي أبدًا لأي عُسر، يقول تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا ٥ إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا٦﴾؛ فلا مبرر لأن نتمسك ببعض العادات، كما هي، لأننا ورثناها شرط أن نحفظ الود ويفهم الآخر أن ما يحصل ويُطلب إنما هو تحسين حياة الآخرين ليتمكنوا من الاستمرار ومواكبة الواقع المستجد حتى لا يتضرر كبار السّن.
وتبقى القدوة الحسنة المؤثرة هي الّتي تساهم في إبقاء الحُبّ بين أفراد العائلة المترابطة. فهل سنتمكن يومًا، وبيسر، من تعديل التّقاليد دون المساس بالرّوابط العائلية المتينة؟