مقالات

اللغة العربية بين التواصل والمصطلح: أصالةٌ علميّة تُستعاد

اللغة العربية بين التواصل والمصطلح: أصالةٌ علميّة تُستعاد

بقلم: بدر شحادة

باحث وناقد من لبنان

 

لكلّ لغةٍ حيّةٍ بُعدان لا ينفصلان: لغةُ التواصل اليومي، ولغةُ المصطلحات العلميّة. والواقع أنَّ اللغةَ العربيّة، رغم ثرائها ومُرونتها، اختزلت تاريخيًا – أغلب الأحيان- في التعبير الجمالي أو الشعري فقط، بينما لم تُفهم قدرتها على التعبير العلمي بالدقة المطلوبة.

وبالتالي إنّ الإشكالية التي تطرحها هذه المقالة تتلخص في الأسئلة فرعية الآتية:

– هل اللغة العربيّة قادرة على التعبير العلمي؟

– هل المصطلح العلمي في العربية أصيل أم مترجم؟

– هل تمتلك العربية آلية لتوليد المصطلحات الجديدة؟

– هل يمكن استعادة دور العربية في العلم؟

وبالتالي تطرح اليوم  هذه الأسئلة الجوهريّة التي تتعلّق بقدرة اللغة العربيّة على مواكبة التحوّلات العلميّة والمعرفيّة المعاصرة، في ظلّ هيمنة اللغات الأجنبيّة على ميادين البحث والتعليم الجامعي والتقني. وليس الحديث هنا عن التفاخر بالتراث أو اجترار الماضي، بل عن سؤالٍ علميّ منهجيّ: هل العربيّة قادرة على أن تكون لغة علمٍ دقيقٍ ومصطلحٍ حديث؟

إن هذا السؤال لا ينطلق من فراغ، بل من ملاحظاتٍ واقعيّة؛ إذ تُتهم العربيّة – أحيانًا – بالعجز عن التعبير العلمي المعقّد، ويُنظر إلى المصطلحات المنتَجة بها على أنها مترجمة بتصرّف لا مولَّدة من بنية لغوية أصيلة.

غير أنّ مراجعة دقيقة لتاريخ اللغة العربيّة، ولمساهماتها في ميادين الجبر والكيمياء والطب والفلك، تُظهر صورةً مغايرة تمامًا، بل تؤكّد أنّ اللغة كانت، وما تزال، تملك أدوات التوليد والابتكار، وأنّ الإشكال الحقيقي لا يكمن في بنيتها، بل في انقطاع تواصلها المؤسّسي مع عالم العلم.

من هنا، تأتي هذه المقالة لتُعالج إشكالية العلاقة بين اللغة العربيّة والمصطلح العلمي، من خلال النماذج التاريخية، والبنية اللغوية، وأسباب التراجع، وإمكانات الاستعادة.

أولاً – لغة الرموز والعقل الجبري

في القرن التاسع الميلادي، كتب محمد بن موسى الخوارزمي كتابه الشهير “الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة” حوالي عام 820 ميلادية في بغداد، وقدّم فيه منظومة متكاملة لحل المعادلات الخطّية والتربيعية باستخدام مفهومَي “الجبر” (al‑jabr) و”المقابلة” (al‑muqābala)  .فمن هنا جاء مصطلح algebra في الإنجليزية، مباشرة من كلمة al‑jabr، بينما كلمة algorithm اشتُقت من الاسم اللاتيني للخوارزمي، Algorit…

وقد اعتُبر عمله أول نصّ جبر مستقلّ من نوعه، ومرجعًا أكاديميًا في أوروبا حتى القرن السادس عشر بعد ترجمته إلى اللاتينية.

إنّ لكلّ لغةٍ حيّةٍ بُعدان لا ينفصلان: لغةُ التواصل اليومي، ولغةُ المصطلحات العلميّة. والواقع أن اللغة العربية، رغم ثرائها ومرونتها، اختزلت تاريخيًا في التعبير الجمالي أو الشعري فقط، بينما لم تُفهم قدرتها على التعبير العلمي بالدقة المطلوبة.

ثانياً – كيمياء العرب: علمٌ ومصطلحٌ وابتكار

في حقل الكيمياء، برز جابر بن حيّان كأحد أوائل العلماء الذين صاغوا مصطلحات دقيقة في التقطير، التبخير وغيرها، ضمن مؤلفات مكتوبة بالعربية الفصيحة. وقد استُخدمت كتبه مرجعًا في العالم، وترجمت إلى اللاتينية، وساهمت في تطوير الكيمياء الحديثة. أما المصطلحات الغربية مثل alchemy، alcohol، alkali فهي مشتقة مباشرة من العربية: الكيمياء، الكحل، القلي.

ثالثاً – الطب العربي: التشخيص بلغة فصيحة

ازدهر الطبّ العربي الإسلامي – عبر كتب عربيّة- مثل “القانون في الطب” لابن سينا، وكتب الرازي وابن النفيس التي لم تكتفِ باللغة العربية فقط، بل صاغت مصطلحات طبية واضحة ومحددة لا تشوبها غموض.

بعض هذه المصطلحات اقتُبست أو اقتُرحت كمرادفات كلمات غربية مثل:

– “هلوسة” → hallucination

– “إغماء” → coma

– “انفلونزا” → influenza

رابعًا- المصطلح العلمي: بنية لغوية صالحة للتجديد

إنّ اللغةَ العربيّة تمتلك نظامًا صرفيًا يعتمد – في أغلبه – على الجذر الثلاثي والأوزان، ما يمكّنها من توليد مصطلحات جديدة دقيقة، في مجالات الطب والعلوم التطبيقية المعاصر في مجمعات اللغة ومراكز البحث.

في الختام لا بدّ من الإشارة أنَّ العجزَ لم يكن يومًا في بنية اللغة العربية؛ بل في ضعف التوظيف المؤسساتي والتربوي والمجتمعي لها. هذه اللغة، التي كانت ذات يوم لغة علمٍ وفلسفة وطب، قادرة على إعادة موقعها في الحضارة المعاصرة، إذا وقفنا بصدق عند استعادة مصطلحها، وربطها بحياة الناس والعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى