مقالات

الحب في التصور الإنساني والإسلامي

الحب في التصور الإنساني والإسلامي

الشيخ محمد أسعد قانصو

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحب دافع فطري، هو تلك الحاجة الملحة التي يحتاجها كل منا ويسعى إلى تحقيقها وإشباعها، شأنها شأن كافة الحاجات المادية أو الروحية والمعنوية التي يكتمل ويتكامل بها البناء الإنساني السوي.

عندما يتحدث القرآن الكريم عن الحب فهو يتحدث عن شعور وجودي، عن حالة روحانية تكوينية وجدت في الإنسان منذ نشأته الأولى، وليست بالطفرة العابرة أو الملحق الإضافي أو الحدث الطارئ نتيجة لظروف أو أحداث خاصة تساهم في تكوينه أو تكون سببا لوجوده.

ولو تأملنا بعض الآيات الكريمة التي ذكر فيها الحب تصريحا أو تلميحا لتأكد لدينا ما قدمناه من توصيف للحب على أنه حاجة فطرية بشرية وشعور إنساني نبيل.

يقول الله تبارك وتعالى في الآية الحادية والعشرين من سورة الروم: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ۚ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)

المودة المذكورة في الآية هي درجة عالية من الجذب العاطفي والروحاني، وهي الركن الأول الذي تستند عليه العلاقة الزوجية، لأنه يشكل الدافع والجاذب لكل من الطرفين نحو الآخر، وهو يمثل العلقة الروحية التي تقود إلى العلاقة الحميمة أو ما يسمونها ممارسة الحب أو ترجمته، والتي يتوقف عليها بقاء النوع البشري واستمراره.

في سورة يوسف الآية الثلاثين يقول الله تبارك وتعالى: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين).

الشغف من مادة الشغاف ومعناه أعلى القلب أو الغشاء الرقيق المحيط بالقلب، وشغفها حبا معناه أنها تعلقت به إلى درجة بحيث نفذ حبه إلى قلبها واستقر في أعماقه.

وفي هذه الآية تعريف وجودي لحالة متعاظمة من حالات الحب البشري، مضافة إلى حالات ومراتب أخرى كالهوي والهيام والوله وغيرها من مراتب الحب.

من هنا فإنه ليس من المنطقي على الإطلاق تصنيف الحب -كشعور مجرد- في خانة التابوات والمحرمات، وليس من العقلانية في شيء أن نشطب عليه بعلامة الإنكار والرفض والتحريم، وأن نتعامل معه ابتداء كأي شعور مستقبَح، أو نزوة دخيلة، أو انحراف محكوم عليه بالتحريم المبرم.

ليس بالإمكان إنكار الحب أو تجاهله أو استئصاله، وأي محاولة لذلك فهي محكومة بالفشل، وما هي إلا هروب من الحقيقة وسعي عقيم لدفن المشاعر في أعماق الروح وبين حنايا القلب.

فكما أنه لا يمكننا استئصال الرغبة بالطعام والشراب، والحاجة الجنسية، والتوق إلى الاستقلالية والحرية، كذلك فإنه لا يمكننا أن نتنكر لحاجتنا الملحة للحب وتوقنا إلى الإشباع العاطفي الذي يحققه، توازيا مع الحاجة للإشباع الغريزي والمادي والفكري.

في قراءة موجزة للموقف النظري والسلوك العملي للإسلام من الحب، فإننا نستخلص اعترافا وجوديا وحتميا به، وليس هذا بالأمر المستغرب أو المستهجن من رسالة سماوية توائم الفطرة الإنسانية وتتفهم حاجاتها ومرادها.

الحب شعور نبيل متفرع من شجرة عميقة الجذور، ذات أفنان وارفة الظلال تستقي غيثها من سحاب الحب الإلهي المقدس.

إننا نجد في الإسلام تأكيدا على الحب كعلاقة تبادلية بين الخالق والمخلوق، وبين المخلوقين أنفسهم. يؤكد الإسلام على قدسية وأهمية هذه العلاقة، ويعتبرها صمام الأمان والضامن الأهم لقوة ومتانة العلاقات الإنسانية لا سيما ضمن الدائرة الزوجية والتي إذا ما افتقرت إلى الحب المتبادل بين الرجل والمرأة لتحولت إلى كيان مفرغ من كل دافعية أو جذب أو شعور بالسكينة والسعادة والطمأنينة، ولأصبح البيت الزوجي أشبه بإدارة رسمية تتلاقى فيها المصالح المشتركة في إطار الحقوق والواجبات المادية حصرا، أو بحضانة للأطفال يقوم فيها كل من الأب والأم بدوره وواجباته ببرود تام وخلو كامل من المشاعر والأحاسيس الدافعة.

بناء على ما تقدم ندرك مغزى الأحاديث النبوية التي تؤكد على الحب، وعلى أهمية إظهاره والتعبير عنه، سواء كان حب المخلوق لخالقه، وقد أُشير إلى ذلك في الأدعية والمناجاة المأثورة عن النبي الأكرم (ص) والأئمة المعصومين (ع)، ففي دعاء أبي حمزة الثمالي يقول الإمام علي بن الحسين (ع):

“يا حبيب من تحبب إليك، ويا قرة عين من لاذ بك وانقطع إليك”.

ويقول (ع) أيضاً في مقطع آخر: “ولئن أدخلتني النار أعلمت أهلها أني أحبك”.

أو كان حب الأخ لأخيه المؤمن، فقد ورد عن النبي الأكرم محمد (ص): “إذا أحب أحدكم صاحبه أو أخاه فليعلمه”.

كذلك في حب الزوجة لزوجها أو الزوج لزوجته فقد جاء في الحديث المروي عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: قال رسول الله (ص): “قول الرجل للمرأة: إني أحبك لا يذهب من قلبها أبدا”.

إن التدهور الذي نشهده اليوم في علاقاتنا سواء في الدائرة الاجتماعية الواسعة أو في نطاق الأسرة أو خصوص الحياة الزوجية مرده إلى الجفاف والتصحر العاطفي، إلى غياب اللغة الودية والتخاطب الرقيق الذي من شأنه أن يترك في النفس الأثر الطيب ويوثق العلاقات ويجمع القلوب على الألفة والمحبة.

من المؤسف القول إن علاقاتنا الزوجية تحديدا تحولت إلى مساكن مشتركة خالية من المشاعر، مفتقرة إلى الحب، غارقة في الروتين اليومي والتكرار الآلي للمهام والوظائف المنزلية المطلوبة.

وهذه الحال هي اليوم إحدى أهم الأسباب التي تؤدي إلى التنافر والتنازع والتوتر وانعدام التواصل، وبالتالي إلى النفور والتباعد الذي ينتهي بالفراق والطلاق.

في الختام، نحن مدعوون إلى وقفة مصالحة ومصارحة مع الذات، إلى جرأة الاعتراف بحاجتنا إلى الحب والعاطفة المتبادلة، إلى تلك الدافعية التي تولد فينا طاقة إيجابية هائلة وتدفع بنا إلى السعادة والسكينة وحب الحياة وتجعلنا أشد صلابة في مواجهة التحديات والصعاب التي تعترض مسيرنا وتحول بيننا وبين بلوغ أهدافنا وتحقيق أحلامنا.

قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم. (31) آل عمران

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى