مقالات

من التجييل إلى التجريب: قراءة في المنجز النقدي للناقد العراقي “سعيد حميد كاظم الوناس”

من التجييل إلى التجريب: قراءة في المنجز النقدي للناقد العراقي “سعيد حميد كاظم الوناس”

د. حنان عبد العالي

مقدمة:

يعد الناقد العراقي “سعيد حميد كاظم الوناس” أحد أهم النقاد والأكاديميين العراقيين المعاصرين الذين أسهموا بفعالية في إثراء المشهد الثقافي والأدبي العربي عامة -والعراقي منه تحديداً؛ حيث إنه يتميز بمنهجه النقدي العميق ومزاوجته السلسة بين التنظير والإجراء، وكذا بقدرته على استشراف التحولات الأدبية، وتقديم قراءات تحليلية تتجاوز السطحية إلى جوهر النصوص الشعرية والنثرية.

“سعيد حميد كاظم الوناس” باحث وأكاديمي وناقد عراقي، حاصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من كلية التربية للعلوم الإنسانية، جامعة بابل، سنة 2016م، والماجستير سنة 2011م، والبكالوريوس سنة 1999م، في التخصص نفسه ومن الكلية والجامعة نفسها[1]. يشغل حاليا مرتبة الأستاذية في اللغة العربية والنقد الأدبي، وهو عضو فاعل في الاتحاد الدَّولي للغة العربية. له العديد من المؤلفات النقدية في الشعر والنثر والمقالات المنشورة في مجلات مختلفة، مثل: مجلة الأقلام، مجلة العميد، مجلة آداب المستنصرية…وغيرها[2].

تركز أعماله النقدية على مفاهيم محورية مثل: التجييل، التجريب، التجديد، الحداثة، مما يجعله تجربة مهمة من التجارب النقدية، وصوتا مؤثرا في فهم ديناميكيات الأدب العراقي الحديث شعراً ونثراً. قال عنه الناقد الجزائري “يوسف وغليسي“: بأنه « ناقد عراقي مختلف عن نقاد جيله خبير بأجيال العراق الأدبية؛ هو الولوع بتسجيل الأدب واستكشاف الخصوصية الأسلوبية لكل جيل لاسيما الجيل الشعري التسعيني الذي شغفه بحثا ودراسة، وبدرجة أقل الجيل السردي النسوي لعراق ما قبل 2003»[3].

يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على أبرز إسهاماته النقدية مع التركيز على كتابيه الرئيسيين ” التجييل في الكتابة الشعرية في العراق بين التنظير والإجراء: دراسة في الجيل التسعيني” (2013م)، و” التجريب في الرواية النسوية العراقية بعد عام 2003” (2016م).

– أعمال سعيد حميد كاظم النقدية:

  • التجييل في الكتابة الشعرية في العراق بين التنظير والإجراء: دراسة في الجيل التسعيني
    ”  دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق، الطبعة الأولى(2013م).
  • ” التجريب في الرواية النسوية العراقية بعد عام 2003″ ، دار تموز،دمشق، سوريا (2016م).
  • وعي التجربة والتجديد في شعر نوفل أبو رغيف: دراسة نقدية في الخطاب الشعري، دار تموز، دمشق، سوريا(2017م).
  • انعطاف المعاني ورسوخ الأثر: قراءات في شعرية الجيل التسعيني في العراق، دار تموز، دمشق، سوريا (2020م).

– قراءة في عتبة عناوين كتب سعيد حميد كاظم النقدية:

تعد عتبة العنوان مدخلا أساسيا لفهم طبيعة العمل ومقاصده، فهي بمثابة البوابة الأولى التي يلج منها القارئ إلى عوالم المتن، والملاحظ على عناوين كتب الناقد العراقي سعيد حميد كاظم أنها تتكون من عدة مكونات دلالية تتسم بدلالات عميقة تكشف عن منهجه النقدي ومحاوره الفكرية نلخصها في الجدول الآتي:

-جدول يلخص أهم مكونات عناوين الناقد سعيد حميد كاظم النقدية-

انطلاقا مما جاء في الجدول يمكننا القول إن عناوين كتب “سعيد حميد كاظم” تعكس ميلا واضحا إلى التنظير النقدي والاشتغال بالمفاهيم الكبرى التي تؤسس للقراءة المعمقة للنصوص ومحاولة مساءلتها مثل: التَّجييل، التَّجريب، الشِّعرية، النِّسوية، الوعي، التَّجديد. تتسم بتركيب يوحي بثنائية إشكالية تجمع بين المفهوم والإجراء. تشير إلى انفتاح واضح على المقاربات المعاصرة لا سيما السيميائيات، النقد الثقافي، الفلسفة التأويلية، مما يضفي على تجربته طابعا موسوعيا وتركيبيا، فهو القائل:« إن الناقد الحاذق هو من يشبك مع المتون الأدبية المختلفة نصية كانت أم سياقية وأن يعرف أسرار النص وتفاصيله وقوانينه الخاصة، وأن يحيط بالفلسفة والأدب والبلاغة والعلوم الأخرى: كعلم النفس والاجتماع والانثربولوجيا والدين والفن، وكذا بالنسبة للعلوم الصرفة، وأن العملية النقدية هي عملية إبداعية، ولذا فهو يسهم في اجتراح مقاربات تسهم في بلورة ملامح جمالية»[1].

منذ العتبة العنوانية يكتشف المتلقي الجدية والعمق المنهجي والنقدي؛ حيث يشير العنوان الأول إلى عمل نقدي منهجي، يبتكر مفهوما جديدا “التجييل” لفهم ديناميكية الأجيال الشعرية العراقية، يتجاوز التصنيف الزمني التقليدي ويؤصل للمفهوم بوصفه بنية جمالية متحركة. يجمع بين البناء النظري والتطبيق العملي مع تركيز خاص على جيل التسعينيات.

في حين يوحي العنوان الثاني بتجربة نقدية رصينة تتّسم بالشمول والعمق، وتؤكد انشغال سعيد حميد كاظم بأسئلة  السرد النسوي، والهوية، والحداثة الفنية، ويسعى إلى تحليل ظاهرة التجريب في الرواية النسوية العراقية وربطها بالسياق التاريخي والاجتماعي لمرحلة ما بعد 2003م.

أما العنوان الأخير “انعطاف المعاني ورسوخ الأثر: قراءات في شعرية الجيل التسعيني في العراق” فيتسم بالعمق الشعري والفلسفي مقارنة بغيره من العناوين –التي جاءت بصيغة التقريرية والمباشرة والتي تُقرأ بوصفها وضوحا منهجيا- يعكس رؤية نقدية عميقة ويركز على الجدلية بين الحركة (الانعطاف) والثبات (الرسوخ) في شعر الجيل التسعيني العراقي؛ حيث إنه يبحث في كيفية قيام هذا الجيل بإحداث “انعطاف” في المعاني    الشعرية، وترك “أثر” راسخ وعميق في المشهد الأدبي في الوقت نفسه.

ولأنه يرى النقد تفتيشا عن الظواهر المتميزة في النص الإبداعي بوصفه عملية إبداعية تحتاج المزيد من الكشف والتنقيب بحثا عن رؤى جديدة، فقد صدَّر كتابه الأخير  بمجموعة من الاقتباسات الملهمة عنونها “إضاءات” كانت بمثابة خارطة طريق فكرية للكتاب وضعته في سياق نقدي فلسفي، كما أنها كشفت عن الإطار الفكري والخلفية الفلسفية التي ينطلق منها الناقد، تنوعت هذه الاقتباسات بين “الإمام علي (عليه السلام)”،  “جلال الدين الرومي“، “عبد الحميد كاتب“، “رولان بارت“، “إميل سيوران[2]، مؤكدة على أن النقد عملية تفكير عميق، وإدراك للجمال، واهتمام باللغة، وتفاعل مع النص، واكتشاف للذات.

والجدير بالذكر هو أن الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات منشورة في مجلات مختلفة، نذكر منها:

  • شعرية السؤال (فرصة للثلج) في ضوء نظرية التلقي، مقال منشور في مجلة الأقلام، الإصدار الأول، سنة 2015م، ص139-ص160.
  • رمزية الإمام الحسين (ع) في الشعر التسعيني، مجلة الأقلام، الإصدار الثاني، سنة 2013م، ص64-ص82.
  • متوالية (المثنيات المتلازمة) وأثرها في تشكيل رؤية النص الشعري: قراءة في (وطن بطعم الجرح) مشتاق عباس معن، مجلة العميد، مج 08، ع 31، أيلول 2019، ص 165-ص 211.

يجمع بينها الشعر وجيل التسعين، وهو ما جعله كتابا ثريا وميدانا لتطبيق ما وضعه من طروحات حول الشعر التسعيني الذي أفاض الحديث عنه في كتابه التخييل، « إذ بين أن العطاء الثّر للشعراء التسعينيين اتضح في المعاني التي أَثْرَوْها والآثار التي تركوها في الساحة الأدبية مما يشار إلى عمق المضمون وجماليات الآداء»[3].

3- تجييل الكتابة الشعرية: نحو تأطير لحظة شعرية جديدة:

كتاب “تجييل الكتابة الشعرية في العراق بين التنظير والإجراء دراسة في الجيل التسعيني” هو المنجز النقدي الأول للناقد العراقي سعيد حميد كاظم، وأحد أبرز المؤلفات التي تناولت تجربة شعراء جيل التسعين في العراق؛ حيث إن علي حسين يوسف في مقاله الموسوم: “النقد الأدبي العراقي … محاولة تصنيفية” انطلاقا من كتابه هذا صنفه تحت صنف مؤرخو أدب[1]. يعد الكتاب علامة فارقة في النقد الأدبي العراقي، لما قدمه من رؤية نقدية مبتكرة، لمفهوم الجيل الأدبي وتطبيقاته على المشهد الشعري العراقي، فقد قارب ما يربو عن أربعين ديوانا شعريا لجيل واحد، منطلقا من فرضية مُفادها أن التجييل ليس مجرد تتباع زمني وإنما عملية ديناميكية تتضمن قطيعة بين الأجيال بحيث يرى أن كل جيل يسعى إلى إثبات هويته وتقديم رؤيته الفنية الخاصة، هذه القطيعة ليست بالضرورة سلبية بل هي محرك للتجديد والإبداع وتدفع بالشعر نحو آفاق جديدة،  يقول:« لهذا الجيل الفضل في إنجاز نص امتاز بنضجه، نص يستفيد من التجارب الأخرى فيتمثلها ويغايرها، لذا كان رصينا وذا أهمية، حيث أخذت تتنفس قصائده روحا متمردة رافضة كل أشكال النمذجة، ذلك أنه أفاق على جراح باهظة، دفعت به إلى أن يرسم تفاصيله اليومية والواقعية في قصيدته، واستطاع أن يزرع وجوده في خريطة الشعر»[2].  معنى ذلك أن النص الأدبي التسعيني قد استطاع أن يحدد ملامح الاختلاف ويكرس أنماطا جديدة تستند إلى الملمح الجمالي والفني من خلال التمرد على الأنماط التقليدية.

4- التجريب والنسوية: مقاربة الرواية النسوية العراقية بعد 2003:

يكشف كتاب “التجريب في الرواية النسوية العراقية بعد عام 2003“، الذي تقدم به الناقد لنيل درجة الدكتوراه من جامعة بابل سنة 2016م، عن مشروع نقدي طموح يشتغل على تفكيك الظاهرة السردية النسوية من زوايا متعددة، أبرزها المفهومية، التقنية، والموضوعاتية. وقد حرص الناقد على تنظيم مؤلفه في أربعة فصول متراتبة، تبدأ بتأصيل المفهوم النقدي للتجريب، وتنتهي بتفصيل تمظهراته السردية والمضمونية، ما يدل على بناء منهجي تصاعدي يجمع بين التأطير النظري والتحليل الإجرائي.

يتميّز الكتاب بغنى محاوره الفرعية التي تنمّ عن وعي نقدي عميق بتعقيدات الكتابة النسوية، سواء من حيث وعيها الذاتي (الفصل الأول)، أو اشتغالاتها التقنية (الفصل الثاني)، أو راهنيتها الموضوعية (الفصل الثالث). والملاحظ أن الناقد لم يكتفِ بالتأطير العام، بل غاص في مفاهيم دقيقة مثل:  تفتيت الزمن، تعويم المكان، فهرسة الحدث، تشظي الذات، خطاب الصمت، الإبهامية، الجنوسة ، وهي مفاهيم تنتمي إلى حقل النقد الثقافي والسرديات  الحديثة، مما يعكس انفتاح الناقد على المرجعيات الغربية المعاصرة في تحليل النص الأدبي.

يظهر الكتاب أيضا قدرة الناقد سعيد حميد كاظم على الغوص في أعماق النصوص وسبر أغوارها فقد قام بمقاربة عشرين رواية لخمس عشرة روائية عراقية من أجل الكشف عن أشكال التجريب فيها واستخلاص دلالاتها الفنية والفكرية وربطها بالسياقات الثقافية والاجتماعية التي أنتجتها.

5- المنهج النقدي للدكتور سعيد حميد كاظم: علم وفن

إن إسهامات الناقد العراقي سعيد حميد كاظم لا تقتصر على تحليل أعمال أدبية محددة، وإنما تتعداها إلى بلورة منهج نقدي متكامل يرتكز على رؤية عميقة لطبيعة النقد ووظيفته؛ فهو «ناقد مجرب بامتياز يمضي برؤاه نحو المغايرة والاختلاف يرتاد آفاقا جديدة لتكريس علامته الفارقة في الراهن النقدي»[3] وفق خط صاعد يجمع بين الدقة العلمية والذائقة الفنية، مؤكدا أن العملية النقدية عملية إبداعية تحتاج المزيد من الكشف والتنقيب بحثا عن رؤى جديدة.

خاتمة:

في الختام، يمكننا القول إن الدكتور سعيد حميد كاظم نموذج للناقد الأكاديمي الجاد والملتزم؛ يروي حكايا “انعطاف المعاني” و”رسوخ الأثر” ويحمل في طياته أسرار “التجييل” و”التجريب” كاشفاً عن خبايا النصوص، ومُجلياً لغوامضها.

لقد غاص في بحور الشعر العراقي، لا ليحصي أمواجه بل ليفهم “تجييل” الكتابة، تلك العملية الخفية التي تشكل الأجيال وتصوغ هويتها. لم يكتفِ برصد انعطافات الشعر بل امتد بصره النقدي إلى عوالم الرواية، وتحديداً النسوية منها، يجمع بين عمق الرؤية النقدية والقدرة على التحليل المنهجي، لا يكتفي ببناء الأطر الفكرية بل يطبقها على النصوص ببراعة كاشفاً عن “جمال الغياب” الذي أشار إليه “جلال الدين الرومي” ومؤكداً أن “خير الكلام ما كان لفظه فحلاً ومعناه بكراً” إنه نقدٌ يرى في “السؤال” مفتاحاً للمعرفة وفي “القراءة والتلقي” عملية حوارية لا تكتمل إلا بفهم الذات والآخر كما ألمح إلى ذلك إميل سيوران.

الدكتور سعيد حميد كاظم ليس مجرد ناقدٍ يحلل النصوص بل هو قنديلٌ يضيء دروب الفهم ومرآةٌ تعكس جماليات الأدب وصوتٌ يدعو إلى التفكير والتأمل إنه يجسد مقولة الإمام علي (عليه السلام): “من تفكّر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم” أسهمت أعماله وبخاصة كتاباه “تجييل الكتابة الشعرية في العراق”         و “التجريب في الرواية النسوية العراقية” في إثراء النقاش النقدي حول مفاهيم محورية في الأدب العراقي المعاصر وفتح أفاق جديدة لفهم التحولات الإبداعية في الشعر والرواية.

قائمة المصادر والمراجع:

  • الكتب:
  • سعيد حميد كاظم:
  • التجييل في الكتابة الشعرية في العراق بين التنظير والإجراء (دراسة في الجيل التسعيني)، دراسات نقدية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، العراق، ط1،2013م.
  • التجريب في الرواية النسوية العراقية بعد عام 2003، دار تموزة، دمشق، سوريا، ط1، 2016م.
  • انعطاف المعاني ورسوخ الأثر قراءات في شعرية الجيل التسعيني في العراق، دار تموز، دمشق، سوريا، ط1، 2020م.
  • رتاج النقد مقاربات نقدية وتأويلات في التجييل والتجريب عند الدكتور سعيد الوناس، دار تموز، دمشق، سوريا، ط1، 2024م.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى