الوباء الذي أسقط الإقطاع: قراءة في أثر الطاعون الأسود على أوروبا

الوباء الذي أسقط الإقطاع: قراءة في أثر الطاعون الأسود على أوروبا
بدر خالد شحادة
باحث في الشؤون التاريخية والاستراتيجية
في أوائل القرن الرابع عشر، كانت التجارة الأوروبية مزدهِرة بشكل متزايد مع آسيا، حيث استوردت الدول الأوروبية سكرًا، وحبوبًا، ومنتجات أخرى عبر طرق بحرية. وكانت هذه السفن، إلى جانب بضائعها الفاخرة، تنقل معها الجرذان والحشرات، التي لعبت دورًا مأساويًا في نقل ما أصبح يُعرف بـ الطاعون الأسود.
بدأ هذا الوباء المدمّر في أوروبا حوالي عام 1347م، وانتشر على مدى السنوات التالية حتى عام 1352م، مخلفًا وراءه عدد مرعبة من الوفيات. لقد كان سبب هذا الطاعون سببته بكتيريا الطاعونية التي تعيش في أجسام القوارض، مثل الجرذان.
لقد كان التأثير الديموغرافي للطاعون هائلاً. حيث أشارت المصادر إلى أن ما يقرب من ثلث سكان أوروبا قد ماتوا خلال تلك الموجة، ما يعني خسارة بشرية كبيرة جدًا. وبعض التقديرات تشير إلى أنّ عدد الضحايا وصل إلى 20–30 مليون نسمة.
وقد أحدث هذا الانخفاض الحاد في عدد السكان؛ أزمة اقتصادية غيّرت موازين القوى في المجتمع الإقطاعي. فمع ندرة اليد العاملة، أصبح للعمال والفلاحين مكانة أكثر قوة من ذي قبل، فباتوا يطالبون بأجور أفضل أو بشروط عمل أكثر عدالة.
إلى ذلك، حاول الملوك والنبلاء استعادة السيطرة على هذه الديناميكية الجديدة عبر تشريعات. ففي إنجلترا، أصدرت الملك إدوارد الثالث في 18 يونيو 1349 ما يُعرف باسم Ordinance of Labourers، والتي أجبرت كل شخص قادر على العمل (تحت سن الستين) على قبول عمل، مؤكدة أن الأجور يجب أن تبقى على مستوى ما قبل الطاعون. وبعد ذلك، في 9 فبراير 1351، أصدر البرلمان الإنجليزي Statute of Labourers لتقييد الأجور ومنع العمال من طلب أجور أعلى.
لكن هذه التشريعات لم تُنفّذ بسهولة تمامًا، فالأزمة الاقتصادية واستمرار ندرة العمال أجبر أصحاب الأراضي على التنافس على اليد العاملة، ما منح العمال قدرًا من القوة التفاوضية. وقد أشارت الدراسات الاقتصادية إلى أن الأجور الحقيقية ارتفعت بعد الطاعون، وأن مستوى المعيشة لبعض الفئات تحسّن على المدى الطويل.
من الناحية الاجتماعية، أفرزت هذه الأزمة أيضًا نقطة تحوّل في المفاهيم القائمة حول علاقة السيد الإقطاعي والعاملين أو بالأحرى الخدم والعبيد المضطهدين، فالفلاحين الذين استطاعوا أن يفاوضوا أو يحصلوا على حرية محدودة، بدأوا يشعرون بقيمتهم. وظهرت مطالب متزايدة — ليس فقط على المستوى الاقتصادي، بل أيضًا في شكل تغيّرات بنيوية تجاه المساواة. كما يشير بعض المؤرخين أن هذه التغيرات كانت من بواكير التحول نحو أنظمة اجتماعية واقتصادية أدّت إلى ظهور أنظمة جديدة تتبنى حقوق العاملين ومن ثم المساواة بين الرعايا فيما بعد، حيث وضعت الأساس لاحقًا لما يمكن اعتباره بداية نهاية الإقطاع.
إن الدرس المستفاد من هذه الحقبة التاريخية يذكّرنا بأنه من رحم الكوارث الكبرى قد يخرج تجديد، وقد تُعيد الأزمات رسم خريطة القوة الاجتماعية. فالطاعون الأسود، رغم ما مثّله من رعب وموت، كان أيضًا نقطة تحوّل أدّت إلى إعادة تقييم القيمة البشرية والاقتصادية للعمل، حيث أدّت إلى قيام أنظمة مناهضة للظلم والشجع.


