مقالات

حين يتفلسف الألم

حين يتفلسف الألم

سعاد قصير

خلال متابعتي لندوة عن الفلسفة، عبر تيمز، تجمع مفكّرين من العالم العربيّ، وكان المحاضرون يتناقشون حول موضوعات عديدة درستها الفلسفة، ولكن مرّ نقاش سريع حول ماهيّة الفلسفة، وأبعادها، هل هي علم طرح السّؤال؟ أم أنّها تسعى إلى تقديم الإجابة؟

وهم في خضمّ نقاشاتهم حول موضوعاتهم المختلفة، مرّوا على السّؤال مرور الكرام، أمّا أنا فسرقني من بينهم، وتوقّف عندي الزّمن للحظات، لم أعد أسمع النّدوة، ولم تعد تغريني حماسة النّقاش، ورحلت عن عالمنا إلى العالم الفلسفيّ، أطرق أبوابًا لم تكن تخفي ما أبحث عنه، فلسفة التّاريخ، وفلسفة العمارة، وفلسفة الوجود، كلّها لم تكن تحمل المفتاح المسؤول عن باب سؤالي، ماذا حين يتفلسف الألم؟

لم يخطر ببالي هذا التّساؤل محض صدفة، فعادة ما يشكّل الألم رفيق طريق نحاول التهرّب منه، ولكن حين وجدت أنّ الفلسفة قدّمت إجابات لأسئلة حقيقيّة طرحتها فوق طاولة الحياة، أسئلة قد يستمتع الإنسان وهو يغوص في غمارها، وفق اهتماماته، وإن كان هدفها تفكيك كينونة الإنسان لإعادة إنتاجها وتشكيلها وفق رؤيتها، بدأت أبحث عن كيف لها أن تفكّك معنى الألم؟ وهل الفلسفة كفيلة لتجعلنا نتصالح مع أوجاعنا المزمنة؟ وحيث إنّ الفلسفة تساعد على فهم الإنسان لأعماق ذاته وتوجيهها، فهل ساعدته على فهم ألمه؟

نحن كبشر، هدفنا الأوّل في الحياة تحقيق السّعادة، ولكن يقول “أرسطو” إنّ الإنسان لا يسعى حقيقة إلى السّعادة، وإنّما إلى تجنّب الألم. هذا القول جعلني أفتح بابًا جديدًا من التّساؤلات، هل نحن نبحث عن الغنى، أم أنّنا نتجنّب الفقر؟ هل نريد القوّة، أم نتجنّب الضّعف؟ أسئلة فلسفيّة كثيرة بدأت تقذفني هنا وهناك، وكأنّ كلّ ما كنت أظنّه واضحًا، فجأة غلّفته غباشة غير مفهومة، وكأنّ التّساؤل زاد مطبّات التّعقيدات الحياتيّة وأدخلني متاهة كنت بغنىً عنها.

ولكن كلّ شيء قابل للقياس، كلّ المعادلات ممكنة الحلّ، والحلول كثيرة ومتغيّرة وفق الثّقافات المتعدّدة، إلّا فلسفة الألم، هي الوحيدة التي لم أجد لها جوابًا فلسفيًّا يشفي غروري المعرفيّ، كيف أقنع إنسانًا أرهقته الآلام أنّها لمصلحته في سبيل تطوير ذاته وتهذيبها؟ ماذا يعني أن يقول “نيتشه”: “إذا قرّرت تقليل درجة الألم البشريّ، فأنت أيضًا تقلّل قدرة البشر على الشّعور بالمتعة والسّعادة؟” لا شكّ أنّ نيتشه مدرسة فلسفيّة، ولكنّي لست من الذّين يقدّسون أقوال الفلاسفة والمفكّرين، لأنّها ببساطة أقوال بشريّة، قد وقد لا تصيب، خصوصًا أنّ البشر يحملون أفكارًا من الممكن أن لا تلتقي وقناعاتنا. ولا نعني بذلك أنّه مخطئ في فلسفته، فلسنا بصدد الحكم، ولكن كون فكره انطلق من بيئة ثقافيّة انتمى إليها، فإلى أيّ مدى يمكن تعميمها في فكرنا الإيمانيّ؟ فلا قيمة للفكر الفلسفيّ إذا ما لم يرتبط بالفلسفة الإيمانيّة. فمن غير المنطق أن تُقاس الحياة بالمادّة الملموسة، هل نلمس الألم؟ أم أنّنا فقط نشعر به؟ مجرّد إحساسنا به يعني أنّه موجود، ليس هو موجود فقط، ولكنّه في الحقيقة يعيد ترتيب أولويّاتنا في الحياة.

هل صدق نيتشه حين قال إنّ الإنسان يجب أن يتحرّر من الموروثات الدّينيّة؟ هل كان يظنّ أنّ الدّين يتعتّق مع الوقت ويصبح تاريخًا؟ إن كان كذلك، فيجب أن نعيد النّظر بمعنى الفلسفة الحقيقيّ، فلا فلسفة بعيدًا عن دستور الله، ولكن ما اعتمده نيتشه في فلسفته كان انتقادًا لمجتمع محدّد، في زمن محدّد، ضمن ثقافة محدّدة، هو لم يعارض الدّين بالمطلق، ولكنّه عارض الممارسين، المسيطرين، أصحاب القرار الذين قيّدوا الممارسة الدّينيّة بما يتناسب مع القوّة الوجوديّة، وقد اعترف أنّ القوّة تأتي من الدّستور الذي يمنح الإنسان الحقّ في الحياة. فلا يمكن أن تُقنع الفلسفة المادّية الإنسان القابع على فراش الألم أنّه يتوهّم، أو أنّه سيكون أقوى، بل على العكس تمامًا، كلّما ازداد الألم، ازدادت معه الرّؤية الوجوديّة تحت رحمة الله، وكلّما ازداد الألم ازدادت قوّة الصّبر، قوّة الإيمان، وقوّة الإحساس بالوجود.

وهنا أتفكّر بقول “أرسطو”، نحن نحيا لنتجنّب الألم، فإن نجحنا، هذا وحده كفيل في تحقيق السّعادة. نحن ببساطة لا نحيا فقط لتحقيق هدف، ولكن في طريقنا إليه نحن نحاول الهروب من أهداف تلاحقنا، أهداف وضعها لنا القدر، والألم واحد منها، ولن ننجح دومًا بتجنّبه لأنّ الأمر ليس بيدنا، ولسنا نحن أصحاب القرار في التّحكم بالرّوح والجسد. لماذا نتألّم؟ تمامًا كما نسأل لماذا نحيا؟ ولماذا نموت؟ هي أقدارنا، وليس القدر مادّة فلسفيّة بقدر ما هو مادّة إيمانيّة روحانيّة. ولكن هل ونستسلم لفكرة وجود الألم؟ لا أظنّ أنّه بالأمر السّهل أن يتقبّل الإنسان انهيار جسده، وعجزه أمام ضعفه الإنسانيّ.

ونحن كمؤمنين دومًا ما نرى أنّ الصّحة نعمة أنعمها الله علينا، هل حصل أن دخلت مستشفى ووجدت المرضى يبحثون في كتب الفلسفة عن أبعاد ألمهم وكيف يتعايشون معه؟ هل شعرت بمن تنخر الأوجاع عظامه؟ ألا نراهم يتضرّعون إلى الله، يتفلسف ألمهم، فتعود ذاتهم إلى خالقها طوعًا ورجاء. هل شاهدت باكيًا يحمل كتب الفلسفة باحثًا عن دواء؟

حين يغيب الوعي الغارق في روتين الحياة، فاقدًا بصيرته عن نعمة السّعادة المرتبطة بغياب حرفي “آه”، يمارس الألم فلسفته ليهزّ إيماننا الرّاكد، ليذكّرنا أنّنا كنّا سعداء.

نحن نمارس الفلسفة الجداليّة في وعينا، ولكن حين يحتلّنا الألم، نعود إلى أصلنا الوجوديّ، إلى فلسفة الإيمان، ولا بدّ لنا كمؤمنين أن نعيد للفلسفة حقيقتها الفكريّة الرّوحانيّة، فالمادّة من دون روح، جسد ميّت.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى