– القراءة الثالثة – د. محمد وهبي

– القراءة الثالثة –
ثراء الفكر وسحر الشعر
دع عنك الغياب قليلا
تألم زد غلتك من الحزن
وحذار أن تحسب أن موتك تأخر
د. محمد وهبي
نص شعري غني يتخذ من الغياب نقطة انطلاقه وبدئه متأرجحاً بين المأساة والوعي سابراً كنه الحقائق ومتكئاً على ثراء فكر عميق.
الغياب هنا خارج على تبدلات الشعور وأحواله وبعيد عن افتراض زمكاني قريب يوحيه ظاهر الكلام والدلالة، إنه الغياب الذي تملك الذات دهراً وحول الحياة وحشة ورتابة ونمطية عصية على الانفلات والتغير.
دع هذا الغياب، وقل لذاتك أن تغادره ولو إلى حين، عد إلى ألمك، راكم حزنك، وزد غلتك منه، إنه قوت يومك وجوعك الداخلي الدفين، التهمه، روِّ عطشك الفذ منه، وقل لفائض الحزن الذي ينتظرك: سأحل ضيفاً على الموت القادم في مواعيده لا محالة لا خائفاً ولا وجلاً.
قد يشي ما بدا من اللغة هنا وما ظهر أن عنفاً سحيقاً قد انقلب على الذات، وأن الميول المكبوتة في اللاوعي الأولي الجمعي تحاول الخروج لمستقر لها، أو قد يشير إلى دوافع ماسوشية تعتري الدواخل وتتطلب الإشباع وتلح لاسترداد اللذائذ وسحر الإمتاع العنفي في مسار طويل متدرج إلى موت محتم.
ولكن عيناً رائيةً تدفع بالتأويل إلى بعض أسراره وخفاياه، تقول أن اخرج من الداخل قليلاً لترى انهمار الخارج عليك وحولك ووسع دائرة رؤياك ورؤيتك ليبين للك أن الموت والغياب كلاها نقص وجود يكتمل الأول بالفناء والاندثار ويعجز الآخر عن بلوغ كماله إذ يبتلعه الصمت ويتناساه الزمن، فلا تدرك الذات سر معناها ولا احتمال خلاصها فتغرق فيما قدر لها وما رسم وتدخل علم الغياب تسلب حريتها وتمتهن كرامتها وتخسر أغلى ما في الوجود من ألق وعزة وأمان. اذن اخرج من الغياب قليلاً واهرب من عبث الانتظار ولو إلى حين كدس الألم والحزن في طريقك الآتي ولا تهب.
وإذا كان لمفارقات الموت والغياب أن تفعل فعلها وتوسع مروحة خياراتها فإن ثنائيات جديدة تتقدم المشهد تتخلخل فيها اليقنيات ويتراجع الوعي بالوهم ويترنح ثبات المعاني المخاتل إذ يردد:
أنت أنقى من حباب الفرح
تطفو على سطح وحشتك
أيها النقي
تذكر أن لك يقين المصلوب وأكثر
وأنه ليس في الأقاحي إلا الريح
وأن النرجس مات بصورته
وهو يتبختر.
تلاوين الفرح توشي الخارج ولا تدخل الأعماق تمتطي سطح المخاوف تداعبها وتفر منها حباباً إلى رحاب الأفق لم يزدك التجزؤ الفرحي الأثيري نقاوة فأنت النقي الأنقى فاعلم إذن وأنت الخطاب والمخاطب، إن النقاء ليس خلاصاً وتذكر أنك خبرت آلام الصلب وعدوانيته وإنك تجاوزت المصلوب يقيناً لتدخل في عميق الوعي الفلسفي للصلب الوجودي اعتقاد العرفاء العظام بالعذاب سبيلاً والقبول به والمسير إليه المرور الحر في النار والخروج من النقاء حيث عالم الطهارة طهارة الروح إلى دارة اليقين ذروة معاناة، الوجود كله شفاه برونو المخاطه على الخشبة رعف الدم والعظام المشهمة بالمسامير، ولكنها تدور، إنه التسليم الكلي الحر تسليم يهزم الطاعة ويطيح بالخضوع والقولبة ليدخل في حقول الانكسارات الكبرى وفي صنع الهويات وقلع الزيف.
اخرج من الطهارة والفضيلة ومن هشاشة الروح، احذف ألف الأقاحي المكرر واعبث بدلالة اللغة وسلطتها لترى القيح فيها والعفن. وحيد أنت في افتتنانك الواعي لا تغويك ابتسامات الورود ولا ضحكات الزهر فخلف هذا الجمال استعصاء مرضي لا شفاء منه.
لا شفاء إلا بموت النرجس الأسطوري فيك، لقد مات، ولم يمت نرجسك حباً لذاته ولا عشقاً لصورته، بل مات متبختراً، طاووساً يقتله الزهو والغرور والانتفاخ. مات على خشبة المسرح في ذورة استعراضه المأساوي ناظراً إليك ملتمساً رضاك كل تصفيقك واندهاشك. مات إذ صنعت ذاته وذوت وهي تقدم دورها البائس والأخير.
لم يمت نرجسك انتحاراً، إذ أفرغ دماغه كل محفزات العظمة فيه، ولم يمت من نزوع تدميري عنفي أخطأ في معرفة عدوه اللدود، ولم يمت لانعدام الكف العقلي حيث الغلبة للهذاءات والهلاوس، بل مات في كرنفال سلطوي مهيب حيث أنت- اللا أنت. وحيث الذات جندي شطرنج قديم في مسرح القبح العميم حيث الجمال لب الاتهام سيد البراءة الخداعة وأداة القمع الدميم المشفرة لضح النفايات المتراكم المستمر.
ليس في القيامة نول
وهذا البرزخ فرصتك المثلي
لتشحذ سكينك وتعري شجر الأحبة
من أقنعة مستعارة
كي تلفي الحقيقة أنضر
في مسار الثنائيات العميق الذي يمسك بهذا النص المفتوح على عمق الدواخل وفوضاها وسحر الزمكان ووسعته لا خيار أمامك سوى القيامة أو البرزخ.. فما الذي أنت فاعل يا ترى؟
تذكَّر أن القيامة زمن أخروي، زمن لا زمن فيه، ومكان أخروي مكان لا مكان فيه لا الزرع يرجى ولا الفعل يقوم أو يدوم، ليعطي، وإذا اعترضت وقلت إن النول أبعد من العطاء والجزاء لما أنت قائم به أو فاعل له، وقلت إنه النسج الجديد والحياكة المتأتية أو الإبداع والخلق لذكرتك أن هذا التأويل المتاح يجانب الحقيقة ويجافيها إذ يمر بالقرب منها، ذلك أن القيامة انتهاء الفعل وموته والحصاد المرجو والمرتجى لما قد كان وتم في غابر الزمن.
إذا كان بعض ما تقدم صحيحاً، فلا خيار لك إلا البرزخ فرصتك المثلى وحلمك المفترض في البرزخ مكان التحول وزمانه لا الموت كامل ولا اليقين الحقيقة التى تروم وتبغي تجربة حية تولد وتتوالد عبر التصدع والانشطار والتجزؤ الحقيقة هنا تبنى في اللحظة والأن والموقف لا يفرض ولا يأتي من خارج سلطوي زائف يتحكم بك ويحدد شكلك وداخلك وكل خياراتك الحقيقة هنا ليست الجوهر الثابت والأزلي الذي لا يتبدل ولا يتغير.
اشحذ سكينك ومزق أقنعة الحب التي صاغتها وكرستها لغة سائدة مهيمنة في القشرة من لبك القويم.
عري هذا الخطاب الذي يتحكم بعلاقات البشر بأحبتهم وصداقاتهم يروضها ويدجنها وينمطها فإذا بها زيف ووهم وخداع.
اذهب إلى الداخل إلى حرارة القلب حيث الدفء والإيثار الذي لا يقاس، إلى الداخل حيث تعرى الحقيقة وتبهى.
عد إلى البرزخ إلى نضارة الحقيقة حيث الوعي الحاد والنافذ وحيث الانكشاف التدريجي والكشف المتساوق للحقائق ينسج بالمعاناة والمكابدة، وحيث يمزق النقد الجارح بسكينه المسنون أستار السلطة الداكنة تندس وعداً وحلماً وحباً كاذباً لا يلين ولا يستكين.
يا أيها النقي
تكسر
ولتكن لك صورة لا تشبهك
وتبعثر.
في مسار الثنائيات العميق يمسك هذا النص المتحرر من اضطراب الداخل بالنقاء متنكراً بلبوس الانسجام الحر والعظيم. كيف هذا؟
إذا كان النقاء جوهرا يوحي بالكمال والصفاء والديمومة، وإذا كانت الهوية الذات صنو النقاء هذا وصنيعه. فاعلم أن هذا كله، أي ما أنت عليه فيما لاح من الأمر وبدا، هو غيرك، هو أثار أقدام هذا العالم الخارجي السلطوي بكل تشعباته ومراتبة وقواه ورقابته. على كينونتك وكيانك آثار أقدام من التدجين والترويض والمعاقبة والقولبة والحب الظاهر المخلع والمستتر بآهداب الفضيلة.
تكسر إذن، فعل عنفك الدفين ضد ظاهر الصفاء والانسجام الذي أنت فيه. أخرج شاهراً سيفك، تحرر وقاوم ثم تبعثر لتخرج هويتك بل ذاتك من فعل التطابق مع صورة ليست لها أولك. هنا فقط ستنوجد ذاتا محررة من الأدران والزيف والتشوة. هنا فقط فعل انعتاقك وتحررك وعودتك إلى رحب حقائق الوجود العارية إلى ذاتك المنشودة والمثال.
يا أيها النقي
كلون شف فلم يبصر
كتبت عليك الطعنات
كما كتبت على الذين لم يخطئوا من قبلك
فتدبر.
مآل الثنائيات الأخير
لحظة شعرية نبوية تتلفع بتجليات عرفانية تغازل مدارجهم وتحاور مراياهم فتهب رياح فلسفية عارمة حيث الانزياح العظيم والكلام الفصل المفتوح على الأفق.
يا أيها النقي كلام في لب الطهارة ودثارها خطاب الخلو من الدنس لغة الصفاء الأخلاقي الكلي وتجسده.
لقد شفيت فلم تبصر، لن ترى أبداً، وكيف ترى وأنت القدرة والفعل والأثر في بناء أساسه التكدر وفي بنية تكثف المرايا اللوني.
كيف ترى وأنت الحي والشاهد في عالم محكوم بتقنيات الكم واجتراحات النانو، أنت المراقب والمعاقب في جزئيتاك وفي كل المساحات الموجية لتفتتك الذري. النقاء، والصفاء، والبراءة والطهارة، وكل ما عداها من عوالم المثل لن تحميك ولن تدرأ الطعنات عنك إذ كتبت عليك كما كتبت على الذين لم يخطئوا من قبلك، استحضار قرآني رهيف يستبطن ظاهر الأمر منه بعض التأويل للتبعات والدروس الناتجة عن امتحان الألم العسير.
فعندما تكون النموذج الأمثل نقاوة، وعندما تخرج عن المألوف السائد والمتعارف عليه والمهيمن. في إطار المفهومات والقيم السلطوية وهواماتها، ايا تكن السلطة وعندما تخلو من الخطيئة وتغادر عالم الخطائين وحدودهم، وتبلغ حد العصمة بمفهوم ديني أخلاقي، فإنك تتحول إلى تهديد بالقوة، أي بالطاقات الكامنة، لهذا السائد المهيمن، ولكنك رغم المثلنة هذه، هش ومسكين بلغة القوة وموازينها وأكثر البشر عرضة للعنف والتهميش والقمع والترويض والتدجين.
لن تحميك البراءة من الطعنات اذن فهل تتدبر أو لعلك تتدبر!
قد يغرك اللفظ اذا لم تدرك ما يختبئ خلف هذا الوضوح ويستتر. قد ترى في البارز من الكلام عن التدبر، إنه خارج من جبة العقاب ووسائطه وأنه وسيلة قمع سلطوي وطريقه في التأديب والإصلاح وأنه ترميز بعيد المنال لنعم من عالم الغيب، فتظن مع هذا كله أن الألم هنا ممر لا بد منه للانضباط والصلاح والمعرفة والتعلم، ممر إلى الحقيقة العارية التي جهد النص في سبر دوؤب لإدراكها والوصول إليها.
ولكن سياق النص ومساراته واشاراته الباطنية العميقة وجل الدلالات منه تدخل في باب مختلف من التأويل والكشف، تأويل قال به العرفاء قديما وعززه ابن عربي وحدد السيوطي مروحة تحركه ووسعة مجاله، وعمقت افكار الحداثة وما بعدها الكثير من أقانيمه ومفاهميه، تقول: أن لا ذلك أن شروخ الطعنات وتهتك الجروح يحول الألم والانكسار إلى وعي وجودي فلسفي يأبى الخضوع والاستسلام ويرى في التدبر بحرا لتأدية أدوار معرفية لم تكن بالحسبان.
هكذا تتكون الذات حرة وهكذا تبنى بعد البعثرة والكسر والتشظي خارج أشكال السلطة وقيمها، في برزخ التحول والتكون والكشف الوجودي لتكون ذاتها ولتخرج من آثار استلاب ديني افتراضي يتوحد في بعده التأملي المعرفي التأويلي مع الإرث الحضاري الثقافي العظيم المتجدد يوماً بعد يوم والقائل بأولوية الإنسان وبحرية الخيار المطلقة.