المجلةثقافة الإبداع

– القراءة الأولى – أ. خليل عاصي

– القراءة الأولى –

التجاور بين الفكر والشعر في نص باسل الزين

أ. خليل عاصي

 

لا شكَّ أنَّ اقتفاءَ المعنى عندَ باسل الزين يَحتِّمُ علينا الغوصَ تحتَ سطحِ النصِّ، مُحمَّلينَ بأدواتٍ معرفيَّةٍ وازنةٍ، فباسل الزين يُغلِّفُ مقاصدَهُ بحِنكةٍ ويُخفيها بعنايةٍ في جيوبِ اللغةِ الخفيَّةِ، ثمَّ يتركُ لكَ علاماتٍ وآثاراً للتعقُّبِ، كأنَّهُ يُناورُ في لعبةِ “بازل”. إنَّهُ يُخاطبُ عقلَ المتلقِّي الفعَّالِ الذي لا يُحبُّ الوجباتِ الجاهزةَ، بل يُشاركُ في الطهوِ لِيَتَلذَّذَ بعدَ ذلكَ بالطَّعمِ وفكِّ شِفرةِ المُكوِّناتِ والمطيِّباتِ.

من الواضحِ أنَّ باسل الزين يَنحازُ شعريّاً إلى عدمِ الاستسهالِ، وإلى المشقَّةِ في البحثِ عن المعنى، ربَّما لاعتقادهِ أنَّ ذروةَ الإمتاعِ تَرشَحُ عن التعبِ الذي يُشعِرُ الإنسانَ بحضورهِ المائزِ من خلالِ سَبْرِ أغوارِ المقاصدِ والاستيلاءِ عليها مُتلبِّسةً بإبداعِها الخالصِ، بل واستيلادِها في هَيئاتٍ شتَّى تتناسخُ لتُصبحَ كالمرآةِ التي تعكسُ صُوَراً ووجوهاً كثيرةً من دونِ أنْ تُفارِقَ كينونتَها. فلو تتبَّعتَ تجربةَ باسل، لوجدتَ أنَّهُ مَحكومٌ لسلطةٍ لا واعيةٍ تقودُهُ دائماً إلى مقارباتٍ “شعروفكريَّةٍ”، ربَّما لأنَّ الشاعرَ مَهْجوسٌ بالفلسفةِ التي يتحدَّرُ منها علميّاً ومعرفيّاً؛ فالنصُّ عندهُ وُلِدَ ليكونَ هكذا: ثابتاً رَزيناً في الشكلِ، مُتحرِّكاً مُشاكساً في المضمونِ.

لكنَّ السؤالَ يبقى: هل يُؤدِّي إعمالُ الفكرِ في الشعرِ إلى إضعافِ الشِّعريَّةِ وإقصائِها؟ يُجيبُ هايدغر على ذلكَ بقولهِ: “إنَّ بإمكانِ الشعرِ تجاوزَ اللغةِ الفلسفيَّةِ القابعةِ في شَرنقةِ الوجودِ وأسئلتِهِ ذاتِ البُعدِ الميتافيزيقي، بينما يختلفُ الأمرُ مع الشعرِ الذي يَصِلُ إلى حقيقةِ الوجودِ ببساطةٍ، ويقودُ إلى التأمُّلِ والتفكيرِ بشاعريَّةٍ”. والمُرادُ هنا هو التَّجاوُرُ بينَ المِخْيالِ والغيبِ، البيئةُ الحاضنةُ لكلِّ ما هو شعريٍّ وفكريٍّ، لأنَّ الشعرَ -بحسبِ هايدغر- هو الصورةُ الأولى للفكرِ.

ولو تحرَّيتَ قليلاً، ستجد أنَّ الشاعرَ يُقاربُ موضوعَهُ ناهلاً من الخيالِ، كقولِه مثلاً: “تَطفو على سَطْحِ وَحشتِكَ”، وأيضاً مُتَّكئاً على الميتافيزيقا والغيبِ، كاستدعائه لمفرداتٍ مثل: القيامة، البرزخ، اليقين، وأيضاً استخدامِه أَنساقاً أسلوبيَّةً تُحيلُ إلى تناصٍّ قرآنيٍّ، مثل عبارته:

“كُتِبَتْ عليكَ الطَّعناتُ، كما كُتِبَتْ على الَّذينَ لم يُخطِئوا من قبلكَ، لعلَّكَ تتدبَّرْ”، والتي تتصادى مع الآية القرآنية: “يا أيُّها الذينَ آمنوا كُتب عليكم الصيامُ كما كُتبَ على الذين من قبلكم لعلَّكم تتقون”.

لا أعتقدُ أنَّ هذا النسقَ قد جاء مجَّاناً، فالذي يعرفُ تجربةَ باسل الزين يُدرِكُ تماماً أنَّهُ ليس كذلك. فهل هذه الإحالةُ هي إلى المسكوتِ عنهُ في عبارتهِ والمصرَّحِ عنهُ في الآيةِ القرآنية، وهو “الصيام”، والذي يعني هنا: الصومَ عن المواجهةِ والمحاولةِ بسببِ اليأسِ الذي يكتنفُهُ من الحالِ التي وصلَ إليها؟ ربَّما لم يقصدِ الشاعرُ ذلك، لكنَّ الشعرَ قصدَه.

سؤالٌ آخرُ يعترضُنا أمامَ هذا النصِّ: ألا تُؤدِّي عقلنةُ الشعرِ إلى كبحِ العاطفةِ التي تُعَدُّ مُكوِّناً أساسيّاً له؟ قد يكونُ ذلكَ إذا صحَّ أنَّ نصَّ باسل الزين يخلو من العاطفةِ فعلاً. فمثلاً يقول:

“ليسِ في القيامةِ نَولٌ

وهذا البرزخُ فُرصتُكَ المُثلى

لِتَشحَذَ سِكِّينَكَ

وتُعرِّيَ شجرَ الأحبَّةِ

من أقنعةٍ مُستعارةٍ”

لو تَمعَّنَّا قليلاً، لوجدنا أنَّ بطانةَ هذا النصِّ هي العاطفةُ، لكنَّها عاطفةٌ من نوعٍ آخر، فتعريةُ شجرِ الأحبَّةِ من الأقنعةِ المستعارةِ تُشي بشعورٍ بخيبةِ الأملِ، الأمرِ الذي سبَّبَ ألماً وحزناً حفرا عميقاً في قلبِه وعقلِه. إذاً، هي عاطفةٌ تُخاطبُ الضميرَ والوجدانَ الإنسانيَّ، عاطفةٌ غيرُ أنانيَّةٍ، لا تبتغي إرضاءَ الذاتِ الفرديَّةِ، بل تضعُها في جدليَّةٍ دائمةٍ مع الآخرِ، وتَنحازُ إلى الإنسانِ.

وهذا يظهرُ جليّاً في كونِ الشاعرِ مأزوماً، ينتابُهُ القلقُ من إعدامِ الإنسانِ لإنسانيَّتِهِ، وافتقادِه لنقائه، وهذا ما يجعلُهُ مُحاصَراً بالخيباتِ، إذ يقول:

“ولتكنْ لكَ صورةٌ لا تُشبِهُكَ

اجمَعْها من شتاتِ وَحيِكَ

وتَبَعثَرْ

يا أيُّها النقيُّ

كلَونٍ شفَّ فلم يُبصَرْ-

كُتِبَتْ عليكَ الطعناتُ

كما كُتِبَتْ على الَّذينَ لم يُخطِئوا من قبلِكَ

لعلَّكَ تتدبَّرْ”

يمكنُنا الخلوصُ إلى أنَّ نصَّ باسل الزين له عتباتٌ ثلاثٌ، يُوظِّفُ فيها مواهبَهُ الحُصُوليَّةَ والحُضُوريَّةَ ليبدو كما يبدو عليه:

العتبة الأولى: الذاتُ الحياديَّةُ التي لا تسعى للاستحواذِ والتملُّكِ والأنانيَّة.

العتبة الثانية: الآخرُ، الذي يضعُ نفسَهُ معهُ دائماً في علاقةٍ ديالكتيكيَّةٍ تسعى إلى الكمالِ.

العتبة الثالثة: البحثُ الدؤوبُ عن الحقيقةِ، التي يُحاولُ التنقيبَ عنها فكريّاً وشعريّاً، على الرغمِ من المعوِّقاتِ التي تُواجهُهُ.

أخيراً، إنَّ تجربةَ باسل الزين تستحقُّ التوقُّفَ عندَها بتأنٍّ ورويَّةٍ، الأمرُ الذي يستوجبُ اقتفاءَ الرموزِ التي يُلقيها في نصِّه كمفاتيحَ للأبوابِ المغلقةِ، والتي ما إنْ نعثرْ عليها، نشعرْ بمتعةِ الاكتشافِ والتفاعلِ معهُ.

صحيحٌ أنَّ شعرَ باسل الزين يُعتَبَرُ صعباً، شأنُهُ شأنُ الكثيرِ من الشعرِ الحديثِ، كما يرى بول ريكور، حيثُ يقول:

“يُلاحظُ أنَّ الشعرَ الحديثَ أصبحَ صعباً للغاية، ومرجعُ ذلك أنَّهُ أصبحَ لزاماً عليهِ مناهضةُ كافةِ أشكالِ تسطيحِ اللغة، ومن ثمَّ الحفرُ في اللغةِ حتى أعماقٍ سحيقةٍ، بغرضِ تجديدِها، وذلك لإعادةِ الكلماتِ إلى أصولِها الدلاليَّةِ الأولى، أو لخلقِ سلسلةٍ من الدلالاتِ التخييليَّةِ.

لا شكَّ أنَّها مهمَّةٌ صعبةٌ جدّاً، يُحاوِلُها باسل الزين بشغفٍ وحُبٍّ، فهو لا يُريدُ مخاطبةَ المتلقِّي العمومي، إنَّما يتوجَّهُ إلى المتلقِّي النخبوي، القادرِ على مُلاقاتهِ على بوَّابةِ المعنى، قبلَ أنْ يدخلَ كلٌّ منهما إلى مخيالهِ الخاصِّ، بعيداً عمَّا يُريدهُ الشاعر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى