
ظريف… ولكن!!
أ. منى محي الدّين
ستعجب يا ولدي، مما سأخبرك به، وأنا على فراش الـموت هذا. بل سيثير فضولك، على طرافته، لكنني عزمتُ على البوح به، رغم أنفاسي الـمتقطّعة. إنّها قصّة شخصٍ عرفته فيما مضى، حين يُصبح يُشرق الأمل في نفسه، وحين يُمسي يُبيّتُ استخارة. لـم ألـمح يوماً ظلاً لليأس في مُقلتيه، وهذا ما دفعني أن أسأله ذات مساء: مَن تُراه يشحن هذا البريق في عينيك، رغم خسارتك منذ ساعات؟
فنظر إلى النّجوم، التي ما أزال أظنّها مُتآمرة عليه، وقال: أراني مُغرماً بهذه اللآلئ التي لا تنفكّ تطلع لأجلي.
حاولتُ عندها أن أُلفتَ نظره إلى عواقب ثقته العمياء بنفسه، إلاّ أنّ إرادتي خانتني! فشرعتُ أضحك وأُقهقه، دون أن أتمكّن من السّيطرة على نفسي، حتى انهمرت دموعي على وجنتيّ. وصدّقني يا ولدي: لو كنتُ محظوظاً لَسجّلتُ أطول ضحكةٍ عرَفتها موسوعة “جينيس”. ومنذ تلك اللّيلة أطلقت عليه اسم “ظريف”.
ذات يوم سمعته يغنّي ويُنشد:
أراك عصيّ الدّمعِ شيمتكَ الصّبر أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ
نعم أنا مشتاق وعنديَ لوعة ولكنّ مثلي لا يُذاع له سرُّ
فتأكّد لي أنّه وقع في شرك الحبّ. صرختُ: وا أسفي على شبابك يا ظريف! ولـم أنسَ طعم تلك الحروف التي أنزلها عليّ، حين هتف في أُذني: دعني وشأني! لـم أعهده بهذه القساوة، ومهما قلتُ يومها فما كان مُستعدّاً لسماعي، لذا أقنعت نفسي بضرورة الـمحاولة، وسألته:
- كيف تعرّفتَ إليها؟
- لقد حضرَت منذ مدّة إلى دكّاني تطلبُ تصليح حذائها. فالتقت عينيّ مرّة واحدة عينيها، وبثوانٍ معدودة اخترقت سهام مقلتيها شُغافَ قلبي، واستقرّت هناك.
- هل سألتها عن اسمها؟ وأين تسكن؟ و…
- لـم تسمح لي أخلاقي بذلك.
- طوبى لك يا أخي. ثم ذهبتَ مباشرةً إلى بيتها تطلبها من والدها، أليس كذلك؟
- ليس كذلك.
- ماذا تعني؟
- يلزمني أن أستجمع قوّتي أوّلاً.
- وكم يستغرق ذلك؟
- … لقد سئمتُ أسلوبك في مُساءلتي، وأنا لستُ مُجبراً على ذلك.
لـم يكن من داعٍ إلى الـمزيد، وأمسى لا بدّ، والحال هذه، أن أهجر حياته… هو أراد ذلك. بعد فترةٍ أبلغني بتهيّئِه وعزمه على الأمر. محبّتي له جعلتني أنسى تجرّؤه عليّ، ففرحتُ لفرحه وركبتُ أمواجه ووصلنا. نحن الآن، في ليلة العيد، عند الباب، نسمع الزّغاريد، القلب في الصّدر ارتعش فرحاً، فاستجاب له النّبض، واحمرار الوجنتين كان أكيداً. لـماذا؟؟؟ لأنّ الحبيبة بالانتظار في ثوب الزّفاف. لقد كانت تُزفّ إلى عريسٍ غير “ظريف” …
وجدتُ الفرصة سانحة لأقول له تعقيباً على ما حدث:
- أليست هذه النّتيجة التي رفضتَ أن تسمعها منّي؟
نعم، تلعثمت، لأوّل مرّة، لكنّه سمعني…
كانت أُمنيته أن يُنجبَ ولداً، لكنّ الأقدار لـم تشأ. غضبَ يومها ظريف أشدّ الغضب، وحمل ما جمع من مال بغرض الزّواج، ليرميه إلى البحر، فمنعته. كم كنتُ فخوراً بنفسي عندما تمكّنتُ من ذلك! أجل يا ولدي، أنتَ أيضاً افخرْ بوالدك، لقد علـمته أن يكبُرَ بأوجاعه، ولـم أجد غير الرّيشة والألوان الّتي جفّت، وهو يركض خلف حلـم يقظةٍ هارب. وهكذا عادت إليه الحياة، بعودته إلى هوايته، وصار يرسم ويرسم حتّى أضاع صنعته. فناديته يوماً.
- أَفق يا صديقي، أبين خطوطكَ ونُقاطك انغمستَ، أم بين أحزانك؟ أين أنت؟ فأنا لا أراك ولا أسمعك! أين أنت؟ أحاضر أم غائب؟
فسمعتُ صوت حاله يقول:
- إنّي أتنفّس تحت الـماء… إنّي أغرق، أغرق…
خِفتُ، ولـم أدرٍ كيف فعلت، لقد مددتُ كفّي وصفعته، لقد كانت صفعةً حقيقية، أو كما يقولون صفعة بكلّ معنى الكلـمة. ثم قلتُ له:
- إذا أردتَ أن تنسى همومك بالرسم فافعل. ولكن لا تنسَ نفسك، لقد بدّدتَ نقودك، وأنت اليوم مُعدم. تساءل عن مصير لوحاتكَ: أوَليس من الأفضل أن تُرسلها إلى مَن يُقدّرها، فتستفيد أنت من ناحيتين: مادية ومعنويّة؟
- مَن سيشتري لوحة لشخصٍ غير معروف؟ وكل مَن حولي فقراء مثلي، ولا يجدون ما يأكلون حتى يبحثوا عن لوحاتي.
- لن تصير معروفاً وأنت قابعٌ في صومعتك. اخرج إلى الناس يا صديقي ودع كلّ ما يُريبك.
بعد أسبوعين عرفت أنّ مباراةً ستجرى لاختيار فنّان العام 2006، وقد بقي من مدّة الاشتراكِ الوقتُ القليل، فحملتُ الخبر إليه، لكنّ الفرحة مرّت وميض برق! فقلت له:
- ماذا دهاك؟ لـم عاد الاكتئاب إليك؟
- الـمدّة قليلة لا تكفيني، فأنا لا أعرف ماذا سأقدّم؟ أأقدّم عملاً قديماً لي؟ أم أشرع في تنفيذ لوحة جديدة؟
- إن كان بحوزتك عمل مهم وجاهز، فلـم لا؟
- إنني مُشتّت الذّهن الآن، ولستُ قادراً على اتّخاذ قرارٍ صائب.
- هيا، خذ نَفساً عميقاً، ثم أخرجه من فمك، وفكّر بهدوء.
- اخترت أن أُعدّل في إحدى لوحاتي وأقدّمها إلى الـمباراة.
- الآن. ما عليك إلاّ أن تُبرز لنا مواهبك الدّفينة، أيها البطل الـمغوار.
وهكذا عكف في مرسمه يتخيّل ويرسم ويلوّن. كان ينسى أن يأكل، وينسى أن يشرب، وينسى أن يأخذ دواءه، و«لا» ينسى أن يتوقّع آراء النّقاد فيُضيف أو يُنقص، حتى أنهى تُحفته التي غدت جاهزة للنقد. وما عليه الآن إلاّ أن يوصلها إلى اللّجنة الـمسؤولة قبل الـموعد الـمحدّد. ولهذه الـمناسبة ارتدى أجمل ما عنده، وهي الثّياب الوحيدة التي لـم يتمكّن الطّلاء من الوصول إليها. وارتأى أن يستقلّ سيارة أجرة بدل ركوب الحافلة، مع أنه لـم يكن يملك نقوداً غيرها، فهو لن يُجازف بوصولها سالـمة. وبالفعل ركب السّيارة. وبعد مضيّ عشر دقائق، بدأ السائق يُبطئ سرعته، حتى أوقفها!! فسأله ظريف:
- لـماذا توقّفتَ؟
- إنّ حرارة الـمياه في السيارة ارتفعت.
- وما العمل الآن؟
- ننتظر معاً، أو تدفع لي أجرتي كاملةً، ثم تستقلّ سيارة أخرى.
- لكنك لـم توصلني إلى حيث أريد!
- أنا لـم أخلّ باتّفاقنا بل أنت، وعليك تحمّل مسؤوليّتك كاملة.
- أرجوك! الوقت ينفد، وأنا أريد أن أصل في الوقت الـمحدّد.
أمسك السائق بظريف، وأخذ ينادي: “أيها الشرطيّ، أيّها الشّرطيّ”. وحضر على عجل، فبادره السائق:
- إنّ هذا الرجل لا يريد أن يدفع لي أجرتي.
- هل هذا صحيح؟
- بالتأكيد لا، يا حضرة الشرطيّ.
- لا وقت أضيّعه، تعاليا معي إلى الـمركز.
- لا داعي إلى ذلك أبداً، هذه هي النقود.
ثم حمل لوحته وأخذ يمشي على قدميه، فقد كانتا آخر أملٍ لديه. بيد أنّ الـمسافة بعيدة، والوقت يمرّ، حتى انقضى، وظريف مازال يمشي… ويمشي! لكن إلى أين؟؟ هل تستطيع أن تُجيبني يا ولدي؟ هل تستطيع؟… لكن كيف؟ وأنت… لـم تشأ الأقدار لك أن تأتِي.
كانت هذه آخر كلـمات قرأتها من تلك الرسالة التي وجدتها حين كنت ذات يوم أمشي… وأمشي، لكن إلى أين؟…