سعيد تقي الدين الأديب والمسرحي النهضوي – أ. سليمان بختي

سعيد تقي الدين
الأديب والمسرحي النهضوي
أ. سليمان بختي
عاش سعيد تقي الدين الأديب والمسرحي النهضوي (1904- 1960) على هذه الأرض 56 عاماً.
وها نحن بعد 65 عاماً على وفاته نؤدي له التحية مثل الأمس واليوم وغداً. ولم يزل في تمامه، ولم يزل بيته في رأس الضيعة في الأدب والسياسة كما كان يقول شيخ النقاد مارون عبود. والسؤال كيف نقترب من سعيد تقي الدين القيمة المضافة والظاهرة الماثلة والمتنوع الموهبة والإنتاج الأدبي من القصة القصيرة إلى المقالة إلى المسرح إلى الخطاب إلى الرسالة إلى رفة جناح، وقد بلغت الآثار التي تركها 24 كتاباً 13 منها أنجزها في حياته و11 أصدرها الباحث جان دايه، وعلى الطريق كتاب جديد بعنوان “سقط سهواً”. وسعيد تقي الدين لا يزال ينتج فلا غياب ولا من يحزنون. وفي زمانه طارت له شهرة في لبنان والعالم العربي حتى كتب عنه الناقد المصري أنور المعداوي “سعيد تقي الدين أعظم أديب فنان في المهجر، شيء واحد أريد أن أقوله لقراء العربية في كل مكانٍ وهو أن يقرأوا كتاب “حفنة ريح”.
هاجر سعيد تقي الدين إلى الغربة ومنها، واشتغل في كل شيء، اشتغل في التجارة والأعمال لكي يعيش ويبدع في الشعر والرواية والمسرح ويتحرَّر في وقفاته ومواقفه وأحلامه. كان جريئاً وكريماً وصريحاً وواضحاً. كان واحداً من هؤلاء الذين إذا مروا في الحياة أخذوا معهم الشهب والصدى والرذاذ والهالة والأثر. أي مهمة كانت تلقى على عاتقه كانت مهمته الكبرى. وأي دور يحفظ له فكان دور البطولة الأولى. وأي قضية كان يؤمن بها كانت قضية حياته. نتذكره يصرخ: “كل مواطن خفير”. أو “لا يمكن أن يكون المواطن صالحاً إلا إذا توافرت فيه ثلاثة شروط: أخلاق رفيعة، وثقافة واسعة، واختصاص عالٍ”. أو “ليس المهم أن تصرع التنين، المهم أن تصارعه”. أو في “لبنان ثلاث دروب سياسية: طريق الحكومة وطريق المعارضة والصراط المستقيم”. هذا الكلام عمره من عمر الجمهورية ولا يزال واقع الحال مقيماً.
نتذكره في مكتبه في رأس بيروت، كما روى لي الروائي الراحل يوسف سلامة، وفي الغرفة مكتبان: مكتب للجهاد والنضال والقضايا القومية، ومكتب للشؤون الحياتية والمهنية والتجارية. فلا خلط ولا مزج بين الشخصي والعام، ولا بين المادي والمعنوي، ولا بين الدين والدولة. وعرفنا ما أصابنا جراء ذاك الخلط الفظيع الذي أوصلنا إلى الفوضى والهدر والفساد والتشبيح. وسعيد ابن بيئته، ولطالما تغزل ببعقلين مثلما يتغزل العاشق بمعشوقته. “بعقلين عاصمة الدنيا” أو “الجامعة الأميركية في بعقلين”.
كتب سعيد تقي الدين غير مرة إلى شقيقه بهيج وهو يخوض الانتخابات النيابية “تذكر يا بهيج، والدك شو كان يقول ما تنام حدي وايديك موسخين”. أحب سعيداً والدته حبَّاً جمَّاً، ولعل عودته إلى لبنان لم تكن إلا لأجلها هي، أمه التي كتب لها إهداء في أحد كتبه من الفليبين: “إلى بعض الله الذي انشطرت عنه ولا أزال منه… إلى أمي، الى التي أحيت أرضاً بوراً في السفح المطل على قريتنا فزرعتها وهي في السبعين سندياناً لن ترى هي ولن أرى أنا أغصانه، إلى أمي هذه الصحائف”. لكننا نحن رأينا السنديانات وقرأنا الصحائف ولمسنا الحب العظيم.
قوة سعيد تقي الدين في أنه كان أكبر من نفسه، أكبر من صورة اللحم والدم. في مسرحية “المنبوذ” يضع على لسان شخصية رفيق هذا الكلام: “نعم كنز. لقيت كنزاً. لقيت نفسي. كنت قطرة في مياه لا تروي، تتبخر، ولا شأن لها، عندما كنت وحدي. قفزت إلى النهر، فلم أعد ذرة من مياه. أنا بعض هذا النهر. أنا النهر. النهر الغائر الهائج الواضح الهدف، الجارف ما يعترضه، المعلن بهديره ودويه عن وجوده وثروته وعطائه، وعن البحر الذي يقصد إليه”.
ورد سعيد تقي الدين قبلنا صفاء الماء، ودعا الجميع إلى الوليمة ولم يستثنِ أحداً. نتذكره ونسأل لماذا انتمى الى صفوف النهضة بعدما صنع اسمه ومجده الأدبي، وعادة يحدث العكس؟ في ظني لأنه كان صادقاً وأراد خلاصاً مجتمعياً لا فردياً، أراد نهضة بلاده، أراد عقلنة الحضارة وعلمنة المجتمع، أراد للقيم والمبادئ أن تكون سياسة. أراد الوفاء الحقيقي لباعث النهضة. سعيد تقي الدين ذلك القادم إلينا من منازل الحقيقة ليثبت أن حكاية الإنسان على هذه الأرض هي حكايته مع الكلمة، وأن للمناقبية والمبادئ حصة المعنى في الحياة وفي ضمير الناس. لذلك كلما قرأناه يجعلنا نردِّد: الله الله ما أشمخ العقل على العمر… الله الله ما أهزل الأيام على الذكاء”.
وبعد، أعطانا سعيد تقي الدين هبة من يتمتعون بالضحك على هذا العالم والسخرية منه، وهم يعلمون أن المتعة ينبوع لا ينضب. هبة من يعانون لكنهم مصممون على هزيمة المعاناة وتجاوزها واختراع الأمل وإطلاق الأسهم المضيئة لبتديد الظلمة.
سعيد تقي الدين نتذكره اليوم وكل يوم ونحتاجه ونكتب على رسله وننسج من عباءته، ونراه ينهض كالقلعة ويمشي كالجبل، وينظر كطائر حكيم، فإذا الرياح تهب في شراعه كأخضر الرجاء، أمل يحيي الأمل، ويدلنا بلا هوادة إلى رؤية جديدة وقيم جديدة وإنسان جديد وبلاد جديدة.
* هذه المحاضرة ألقيت في اللقاء السنوي الثامن مع سعاده في ضهور الشوير في ندوة “تحية إلى سعيد تقي الدين”.