
نازِح
أ. وحيد حمّود
سنواتٌ عِجافٌ فوق ظهره، شحوبٌ عتيق طقطق مسامات الوجه فشتّتها، ليالٍ ساهرة تحت العينين ونجومٌ انطفأت على الخدّين فكأنّها بقايا سجائر تبغ أُطفئت في وجهٍ كان يشعّ نوراً. هو لا يدري أيّ الأوجاع قد حطّمته أكثر، فالألم حين يعظُم ننسى مصادره.
-المساحيق… المساحيق… ها أنذا رهن إشارتكم.
يصيح كعادته مبتسماً في غرفة التّجهيز، يلكز هذا ويقرص ذاك، يوشوش تلك فتتصاعد أصوات ضحكاتها فترتطم بسقف المكان، ثمّ تسري ضحكةٌ صاخبةٌ بين الجميع، فالسّعادة كما الحزن، معدية.
قاطع جلسة المكياج الأستاذ فريد محسن، المخرج المسرحيّ الشّهير بصوته الأجشّ:
– لقد عملت بكدٍّ وجهد طيلة هذا العام، واليوم أنت أمام تحدٍّ كبير، أُدرك صعوبة الأمر، لكنّ القادر على إضحاك الجميع سيكون قادراً على إبكائهم، أليس صحيحاً؟
حرّك ناصر رأسه نحو الأمام، ثبتت ملامح وجهه، جحظت عيناه من دون أن يتفوّه بكلمةٍ واحدة.
أردف فريد قائلاً: لقد تعرّض زميلك بسّام صاحب الدّور لوعكة صحيّة وهو في المستشفى، ولقد وقع اختياري عليك لتأدية هذا الدّور. إنّها فرصتك يا ناصر، فرصة انتقالك من الكوميديا نحو الدّراما وفرصة أن تكون الرّجل الأوّل في المسرحيّة، وإنّني أعلم أنّها مخاطرة منّي، لكنّني أثق بك.
لم يكن أحدٌ من المتواجدين يعرف شيئاً عن ناصر، إنّه كجميع النّازحين الذين ركلتهم الحرب خارج ملعب حياتهم، فلا الحرب حقّقت هدفاً بهم ولا هم نسَوا قوّة الرّكلة، ترك أرضه بعد أن خسر كلّ شيء، ما الذي يبقينا في الوطن؟ وما هو الوطن؟ راح يصيح أمام أصحاب الشّاشات ووسائل الإعلام، ما هو الوطن؟ أنتم تعتاشون من تصوير جراحاتنا، أيُّ وطنٍ هذا الذي أبقى فيه، وفي كلّ حبّة تراب منه أشلاء أبنائي الأربعة، زوجتي، أمّي وأبي وإخوتي! الوطن هو العائلة وكلّ ما دون ذلك شتات. لسعت أفعى الحرب دماغه فصار مشرّداً يجوب الشّوارع المهدّمة الأبنية، كان أفضل كتّاب المسرح في وطنه، لكنّه لم يكن يُدرك حجم المسرحيّة الدّامية التي تخطّها أيدي القدر.
هجر وطنه مع المهاجرين، استقلّ مركباً وانطلق بالنّازحين أمثاله يستعطفون جميع البلدان، بصقته كلّ ثغور الأرض حتى وصل مصر، أمضى شهوراً يفترش الشّوارع، ينتظر النّهارات لتخرج فتجده راكضاً نحو المساجد، لم يكن يعرف من الدّين سوى الله، كان يكره رائحة السّجّاد في المساجد، تلك الممتزجة بعطور المصلّين العربيّة القديمة، لطالما أخبر والده حين كان صغيراً بعدم ارتياحه لارتياد الجوامع، لم يأبه الأب لحديثه ووصفه بالطّفل العاق، فنشأت بينه وبين الدّين عداوةٌ لم يسلَم منها سوى الله.
كان يحبّ الله ويدعوه سرّاً بأن يغيّر حاله، وقد لبّى الله دعوته حين تعلّم وأصبح أفضل كتّاب المسرح فانقضى عهدٌ من الفقر على يديه، أخرج عائلته من ظلمات الفقر إلى نور العيش الكريم، ثمّ جاءت الحرب فأنهت بيديها القذرتين كلّ شيء، من الذي أباد هذا الوطن؟ ولأجل من صارت هذه الحرب؟ أسئلةٌ كبرى حرقت كلّ عشبةٍ نمت في بساتين رأسه فأجبرته على الرّحيل.
التقى بأحد المصلّين يوم الجمعة، كان هذا الشّخص فريد محسن، دار حديثٌ بين الرّجلين انتهى بعقدٍ شفويّ دعا فيه محسن النّازح ناصر ليزوره في استديو التّصوير لعلّه يجد عملاً ينتشله من هذه الحالة. لم يُخبر ناصر المخرج محسن سوى بأنّه نزح من بلاده نحو مصر ليجد عملاً يعين فيه أسرته، وجد نفسه مضطرّاً للكذب لكي لا يشعر بشفقةٍ في أعين محسن ورفاقه.
– إنّني أثق بك. ردّد محسن كلماته مجدّداً ملوّحاً بيده أمام وجه ناصر الذي بدا أنّه قد رحل على بساطٍ من الشّرود نحو ذكرياتٍ خلت وأوجاعٍ لم تسلم الرّوح منها بعد.
– حسناً، حسناً، موافق. ما هو الدور؟
قال ناصر كلماته هذه بسرعةٍ كبيرة كمن يريد أن ينتهي كلّ شيء بسرعة.
– إنّه عن النّازحين، الأمر سهلٌ عليك، فلقد ذقت مرارة التغرّب عن وطنك، ستؤدّي دور النّازح الذي فقد كلّ شيء في وطنه، خذ اقرأ الدّور، إنّها بضعة أسطر بمشهدٍ لن يتجاوز الدّقيقتين.
ارتسمت الصّدمة فوق وجه ناصر، نظر في الوجوه المحدّقة به في المكان، رأوه لأوّل مرّة وكأنّه شخصٌ غريب لم يلتقوا به أبداً، ناصر الضّاحك دائماً، تخرج من عينيه شرارة حزنٍ دفين وكلامٌ يكاد ينطقه كلّ ما في روحه.
– لا، لا أستطيع تأدية الدّور، إنّه صعب، صعب، لا أستطيع اعذرني اعذرني.
صاح جميع من في المكان صيحةً واحدة مشجّعة:
– ناصر البطل، قم بالدّور يا بطل، ناصر، ناصر، ناصر.
– ليس لديك المزيد من الوقت، اقرأ الدّور جيّداً ولا تخذل هؤلاء الذين يرون فيك بطلاً.
أمسك ناصر الورقة بيدين مرتجفتين وراح يقرأ، والدّموع تنهمر من عينيه، أنهى رفاق العمل المكياج الملائم واللّباس المناسب للدّور.
رنّ جرس السّاعة التّاسعة مساءً. فُتحت ستارة مسرح القاهرة الكبير، خرج ناصر أمام الجمهور المحتشد، حيّاهم وسط أصوات التّصفيق والصّفير ثمّ بدأ بالحديث:
– أنا ناصر فخران، أبٌ لأربعة أولاد، مجد، عُلا، نصر ورنيم. فقدتهم، نعم فقدتهم، والآن أنا أمامكم لتأدية دور نازحٍ فقد كلّ شيء، أتكون حياتنا مسرحيّةً هزليّة لهذه الدرجة؟
راح يضحك بصوتٍ عالٍ والجماهير مشدوهةٌ لما يقول، وبينهم المخرج محسن الذي قام عن كرسيّه ووقف ينظر للشّخص الماثل أمامه على المسرح بدهشةٍ قلقةٍ.
أكمل ناصر كلامه:
– كنت أتمنّى لو أنّ ما أقوله الآن دورٌ أؤدّيه كي أزرع في قلوبكم بعض التّأثّر، كنت أتمنّى أن أعانق أبنائي بعد انتهاء الدّور هذا لأسمع منهم فخرهم بما قام به والدهم، لكن، لمن أؤدّي الدور الآن؟ من بانتظاري؟ هل تسمعني أيها الربّ؟ من بانتظاري؟
كان قد رفع يديه ورأسه نحو الأعلى.
سنينٌ علّمني فيها والدي معنى الوطن، أخبرني بأنّه أغلى من كلّ شيء، كان يشدّني من أذني إن تلعثمت في درس التّربيّة الوطنيّة، كان يقول لي: هذا الشّيء الوحيد الذي لا يجب أن تتلعثم فيه، هههههه، انظروا لسخرية القدر، لقد رحل أبي فعلمت أنّه هو وحده كان الوطن، أيُّ وطنٍ هذا الذي يبتلع أبناءه ويشرّد الأحياء منهم؟ أنا نازحٌ قد بصقته كلّ بقاع الأرض لأنّه لم يعد قادراً على النّظر في شوارع وطنه، لأنّ روحاً عزيزةً سُفكت في كلّ شبرٍ منه، أنا نازحٌ جئت أؤدّي دور المضحك لكي أخفي ندبات روحي فلا أرى هذه الشفقة التي فوق وجوهكم الآن، تبّاً لهذه المسرحيّة الهزليّة التي نحياها، أسدلوا الستارة.
ركع على ركبتيه وانهمرت الدموع من عينيه وأعين الحاضرين ثمّ أُسدلت الستارة.